إيران بعد المعركة

لم يُضفِ انتهاءُ الأعمال العدائية المفتوحة وضوحًا على التوجُّه الاستراتيجي لإيران. بل كشفَ عن جهدٍ مستمرٍّ داخل المؤسّستَين السياسية والعسكرية حول كيفية تفسير نتائج الحرب، ونوع الموقف الدفاعي الذي ينبغي أن يُوجِّهَ البلادَ في المستقبل.

حسن روحاني: روحاني: حذّر من أنَّ “وقف إطلاق النار ليس نهاية التهديد”.

نيكول غرايفسكي*

بعد اثنَي عشر يومًا من الحرب مع إسرائيل، والتي تفاقمت بسبب الغارات الجوية الأميركية على منشآتها النووية، تَجِدُ الجمهوريةُ الإسلامية الإيرانية نفسها على شفا مشهدٍ استراتيجي مُتَغَيِّر جذريًا. ترسانتها الصاروخية، التي كانت في يومٍ من الأيام فخرَ رادعها العسكري، قد تدهورت. برنامجها النووي، الذي طالما كان ركيزةً أساسية في استراتيجية الردع، تعرّضَ لأضرارٍ جسيمة، وإن لم تُحَدَّد حجمها علنًا بعد. جهازها الأمني، المُختَرَقُ بعُمقٍ من قبل المخابرات الإسرائيلية، أصبح مكشوفًا. قيادتها، التي يبدو عليها القلق من الضربات الدقيقة ضد شخصيات بارزة ومواقع استراتيجية، تجدُ نفسها أكثر عزلة من أيِّ وقتٍ مضى في الذاكرة الحديثة. ويُواجِهُ شعبها -الذي عانى سنوات من القمع والحرمان- الآن شبحَ ضوابط داخلية أشدّ صرامةً تحت ذريعة حالة الطوارئ الوطنية. السؤال الذي يواجه قيادة إيران الآن هو ما إذا كانت قادرةً على التكيُّفِ مع بيئةٍ استراتيجية مُتغيِّرة، أم الاستمرار في مسارٍ كَشَفَ حدوده؟

لقد سلّطت الحربُ الضوءَ على التناقضات في قلب الجمهورية الإسلامية. وقوّضت المبادئ الأساسية التي وَجَّهَت السياسة الأمنية الإيرانية لعقود، ألا وهي أنَّ الجَمعَ بين الحرب غير المُتكافِئة والردِّ الصاروخي يمكنُ أن يحمي النظامَ من هجومٍ واسع النطاق. وبدلًا من ذلك، كشفت الضربات عن نقاطِ ضعفِ النظام، الخارجية والداخلية. تقفُ طهران الآن أمامَ خيارٍ مصيري: إمّا الاستمرار في سياسات المواجهة نفسها التي عمّقت عزلتها وكشفت نقاط ضعفها، أو التكيُّف مع واقعٍ جديد تَعَرَّضَ فيه رَدعُها للاختراق، وعمقها الاستراتيجي للخطر، ولم يعد بقاء نظامها مضمونًا بالصِيَغِ القديمة.

داخلُ النظام، تدورُ نقاشاتٌ جدية بالفعل. فالقيادةُ، التي أصبحت أكثر هشاشةً من أيِّ وقتٍ مضى منذ ثمانينيات القرن الماضي، تَدرُسُ خياراتَ التعافي. يجب الآن إعادة بناء البنية التحتية العسكرية في ظلِّ رقابةٍ دولية مُكثَّفة وقيودٍ اقتصادية متزايدة. أما البرنامج النووي، الذي كان في يوم من الأيام رمزًا للتحدّي السيادي والإنجاز التكنولوجي، فيجب إعادة تقييمه – سواءً للحفاظ على ما تبقّى من غموضه أو للشروع في مسارٍ جديد من القدرات العلنية. ورُغمَ أنَّ “محور المقاومة” كان يُنظَرُ إليه تاريخيًا على أنّهُ عاملٌ مُضاعِف للقوة، إلّا أنه تدهورَ إلى حدٍّ كبير قبل الحرب، مع تزايد الشكوك المحلية التي تُلقي بظلالٍ من الشك على جدوى إعادة تنشيطه المُكلِف. لا يزالُ الكثير من الأمور غامضًا. ومع ذلك، فإنَّ النقاشَ الداخلي الناشئ في أعقابِ الضربات يُشيرُ إلى أنَّ القيادة تَدرُسُ بالفعل تحوّلاتٍ مُحتملة في السياسة – حتى مع غياب المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، البالغ من العمر 86 عامًا، عن الأنظارِ بشكلٍ ملحوظ.

كانَ ردُّ الفعل الفوري من المؤسسة المُتشدّدة في طهران هو إعادة صياغة الانتكاسات العسكرية على أنها انتصاراتٌ استراتيجية. وقد خدم هذا السردُ أغراضًا مُتعدّدة: الحفاظُ على شرعية النظام، والحفاظُ على الروحِ المعنوية للجيش، وإظهارُ قدرة ردعٍ مستمرّة للأعداء الخارجيين. وقد ذكرت وكالة “تسنيم نيوز”، التابعة للحرس الثوري الإسلامي، أنَّ “أهداف الأعداء -من تفكيك البرنامج النووي الإيراني، إلى التسبُّب في انهيارٍ داخلي- قد فشلت فشلًا ذريعًا”، مُسلِّطةً الضوء على قدرة الحرس الثوري الإسلامي على ضربِ أهدافٍ أميركية في قطر و”اختراق أسطورة القبّة الحديدية” في إسرائيل. بل إنَّ وسائلَ الإعلام المُتشدِّدة زعمت أنَّ الحربَ وَجَّهَت ضرباتٍ طويلة الأمد لأمن الدولة العبرية، مثل تفكيك “حوالي 90%” من شبكات التجسّس التابعة للموساد داخل إيران خلال الصراع.

وقد جسّدَ إعلانُ خامنئي بعد وقف إطلاق النار هذه الرواية الانتصارية، مُعلنًا أنَّ “النظام الصهيوني، بكلِّ ما يملكُ من غطرسة، كاد أن يُسحَقَ تحت ضربات الجمهورية الإسلامية”، مُتباهيًا بأنَّ الصواريخ الإيرانية اخترقت الدفاعات الجوية الإسرائيلية و”سوّت العديد من مناطقها الحضرية والعسكرية بالأرض”. يتجاوزُ هذا التفسيرُ المُتشدّد النتائجَ العسكرية المباشرة ليشمل الاستعداد والجاهزية لخوض حربٍ مستقبلية مع إسرائيل. أوضح اللواء يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري الكبير للمرشد الأعلى، أنَّ وقفَ إطلاق النار يُمثّلُ فاصلًا استراتيجيًا وليس نهايةً للأعمال العدائية. وحَذّرَ من أنه “إذا ارتكب الأعداء خطأً آخر… بقيادة المرشد الأعلى، فإنَّ جميع مصالحهم وقواعدهم ستواجه عواقب أشد وطأة وخطورة”.

في نظر المؤسّسة الإيرانية المُتشدّدة، ليست فترةُ ما بعد الحرب فرصةً لضبط النفس، بل فرصةٌ لتسريع الاستثمار في صناعة الدفاع في البلاد. فهي تُصوِّرُ الحرب، رُغمَ تكاليفها، على أنها تبريرٌ استراتيجيٌّ لنموذج الردع الإيراني ومبرِّرٌ لتعميق العسكرة. وقد جَسَّدَ إسماعيل كوثري، العضو البارز في لجنة الأمن القومي في البرلمان والعميد السابق في الحرس الثوري الإسلامي، هذا الرأي، مُعلنًا أنَّ “العدو أُجبِرَ على التراجُع”، وحثَّ على “ضرورة زيادة مدى الصواريخ ودقّتها، لأنَّ الردعَ لا يُجدي نفعًا إلّا عندما يكون ردّنا سريعًا ودقيقًا”. الدرسُ المُستفاد ليس مراجعة الاستراتيجية، بل تعزيزها: توسيع القدرات الصاروخية، وتعزيز مرونة القيادة والسيطرة، وتشديد الأمن الداخلي استعدادًا للمواجهة المقبلة.

مع ذلك، برزَ تقييمٌ أكثر جدّيةً، في ظلِّ السرديات المُنتَصِرة والتهديدات بمواصلة الأعمال العدائية. أصدرت أصواتٌ وسطية وإصلاحية -بعضها متحالفٌ مع تكنوقراطية عهد الرئيس السابق حسن روحاني- بياناتٍ حذرة تُحذّرُ من الرضا عن الذات. ودعا هؤلاء المعلّقون، مع استمرار دعمهم للنظام الإسلامي، إلى ضبط النفس، ومراجعة الذات، وإجراء تقييمٍ صادقٍ لنقاط ضعف إيران التي انكشفت خلال الصراع. وحذرت صحيفة “اعتماد” من أنَّ على إيران إجراء تقييمٍ ذاتيٍّ “دقيقٍ وشجاع” لمعالجة أيِّ نقاط ضعفٍ كشفت عنها الحرب، حتى “لا يُعمينا حجم هذا النصر عن الواقع”. وحذّرَ المقال من أنَّ “متسللين” معادين حاولوا التخريب الداخلي خلال الحرب، وحثّ السلطات على “تحديد واقتلاع” الجذور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذه الخيانة.

من جهته، أصدر روحاني بيانًا هنّأ فيه القوات المسلحة، لكنه حذّر من أنَّ “وقف إطلاق النار ليس نهاية التهديد”. وشدّدَ على أنَّ إعادة بناء ثقة الجمهور وإصلاح الاستراتيجية الوطنية لا يقلّان أهميةً عن الجاهزية العسكرية. وأكد أنَّ “الوحدة بين الشعب والحكومة والقيادة هي السبيل الوحيد للمضي قدمًا”. كما قدّم حسام الدين آشنا، المستشار الرئاسي السابق لروحاني، تقييمًا ربما يكون الأكثر صراحةً: “لم نُهزَم ولم ننتصر. العدو أيضًا لم ينتصر ولم ينهزم. إنَّ وقفَ إطلاق النار مشروط – يعتمد على مدى سرعة إعادة بناء قدراتنا الهجومية والدفاعية، وقوتنا الاقتصادية، وتماسكنا الاجتماعي”.

من أبرزِ نقاطِ التقارُب في الخطاب الإيراني بعد الحرب كان التوافُق بين مختلف الفصائل حول التماسك الوطني كركيزةٍ أساسية للأمن. ويُمثّلُ هذا تحوُّلًا جذريًا عن التركيز الإيراني التقليدي على الردع العسكري كضامنٍ أساسي لبقاء النظام. تُقِرُّ أصواتٌ من مختلف الأطياف السياسية -من المحافظين المتشدّدين إلى البراغماتيين ذوي التوجُّه الإصلاحي- بأنَّ بقاءَ النظام لا يعتمدُ فقط على قدرته على إلحاق الأذى بالخصوم، بل أيضًا على قدرته على الحفاظ على الشرعية الداخلية والوحدة الوطنية والاستقرار الاقتصادي تحت الضغط.

على سبيل المثال، أشار الكاتب الصحافي مرتضى مكي إلى أنَّ “العاملَ الأهم في انتصار إيران” هو “التماسُك الوطني”، ونصحَ إيران باستغلال مهلة وقف إطلاق النار ل”إصلاح الأنظمة الدفاعية”، وكذلك مواصلة إجراءات الإغاثة الاقتصادية الأخيرة لتحسين الروح المعنوية العامة، مما يعزز “الأمل في المجال العام والثقة بالدولة”. حتى المعلّقون المحافظون يُقرّون الآن بأنَّ الصمودَ في المستقبل سيتطلّبُ إصلاحًا اقتصاديًا وشرعيةً عامة. أشار عضو برلماني بارز إلى أنَّ على إيران الآن بناء “اقتصاد مرن” حتى “لا يتصوَّر العدو إيران في حالة فوضى في الحرب المقبلة”.

في حين أنَّ الردَّ الإيراني قد فَرَضَ تكاليف واضحة على إسرائيل -28 قتيلًا ومئات الجرحى ومليارات الدولارات من الأضرار- إلّا أنَّ الحربَ بدّدت الوهم بأنَّ القوة العسكرية وحدها كفيلة بضمان استقرار النظام ودفاعه الإقليمي. لهذا السبب، من المرجح أن تُجبِرَ الحربُ إيران على إعادة النظر في أُسُسِ استراتيجيتها العسكرية.

يُشيرُ أحد المسارات إلى الاستمرارية – بمضاعفة البرنامج الصاروخي، بل وحتى إعادة إحياء “محور المقاومة”. إلّا أنَّ الصراعَ أبرزَ محدودية هذا النهج التصادمي: فهو مُكلِفٌ، وتصاعُدي، وفشل في نهاية المطاف في منع الهجمات المستمرة. علاوةً على ذلك، لا يوجد عزمٌ كبير داخل إيران على إعادة الاستثمار في “محور المقاومة”، بالنظر إلى الضغوط المالية الهائلة، ونقص الدعم الشعبي، وانخفاض العائدات التي كُشف عنها خلال العام والنصف الماضيين.

يميل مسارٌ ثانٍ نحو التكيُّف، بالانتقال إلى موقفٍ دفاعي إقليمي أكثر انغلاقًا على الذات، يُركّزُ على حماية القيادة والبنية التحتية والاستقرار الداخلي. وهذا بدوره قد يتطوّرُ إلى مسارٍ ثالث: تكثيفُ العسكرة المحلية. مع توسُّعِ الحرس الثوري الإيراني في دوره الداخلي، وتزايد المراقبة، وقمع المعارضة تحت لواء اليقظة الحربية، يُخاطر النظام بتنفيرِ شعبٍ مُرهَق أصلًا.

الخيارُ الرابع، وإن كان أبعد ما يكون عن الواقع، يتوخّى إعادةَ تقييمٍ للوضع الراهن، يربطُ الأمن القومي بالانتعاش الاقتصادي والشرعية السياسية. لكن ربما يكونُ التحوُّلُ الأكثر أهمية هو التوجُّه نحو التسلح النووي: تطوير قدرة نووية سرية تحت ستار التخصيب المدني، بعد التوصُّلِ إلى استنتاجٍ مفاده أنَّ الردع التقليدي وحده لا يضمن بقاء النظام. هذا السيناريو الأخير يجد صدًى فعليًا في خطاب إيران ما بعد الحرب.

كان التحوُلُ أكثر حدّةً حول الخطاب الإيراني المتطوِّر حول برنامجها النووي. فما كان يُؤطَّرُ لفترةٍ طويلة بلغة التقدُّم العلمي السلمي وحقوق السيادة، أصبح الآن يُعبَّرُ عنه بشكلٍ متزايد من خلال لغة الردع والانتقام والعمق الاستراتيجي. لقد حفّزت الحرب وتداعياتها بوضوح تحوّلًا في الخطاب والسياسة الإيرانيين بشأن القضية النووية، مما دفع الجمهورية الإسلامية نحو موقفٍ نووي أكثر حزمًا وأمنيةً – حتى مع أنَّ التحرّكات في هذا الاتجاه قد تؤدي إلى المزيد من الهجمات الإسرائيلية أو الأميركية، أو كليهما. عبر طيفٍ واسعٍ من الآراء، يُقدّم المسؤولون البرنامج النووي على أنه ليس مجرّدَ رمزٍ للسيادة، بل ركيزةٌ من ركائز الدفاع الوطني التي تُبرّرها القدرة على البقاء تحت النيران.

أكّدَ المسؤولون الإيرانيون مرارًا وتكرارًا أنَّ الهجمات العسكرية -مهما كانت كثافتها- لن تُوقِفَ التقدُّمَ النووي الإيراني. وقد تعزّزت هذه الرواية بتقارير تُفيدُ بأنَّ اثنَي عشر يومًا من الضربات الأميركية والإسرائيلية المتواصلة لم تُؤخّر الجدولَ الزمني النووي الإيراني إلّا بضعة أشهر، واعتُبِرَت دليلًا على صمود البنية التحتية النووية، وأنَّ إسرائيل “فشلت في تحقيق هدفها الأساسي”.

وقد جَسّدَ سفير إيران لدى الأمم المتحدة، سعيد إيرفاني، هذا الحزم الجديد عندما أعلن أنَّ طهران “لن تقبلَ بأيِّ قيودٍ على أنشطتها الصاروخية”، قائلًا بصراحة ووضوح بأنَّ إيران ستواصل تخصيب اليورانيوم على أراضيها ولن تتفاوضَ على التنازُلِ عن قدراتها المحلية في دورة الوقود النووي. وبالمثل، صرّح ممثل إيران لدى الأمم المتحدة في جنيف قائلًا: “لقد أظهرت إيران يقظتها وعزمها وقوتها في الدفاع عن أراضيها وشعبها وحقوقها، وستُدافع بحزمٍ عن حقّها الأصيل في الدفاع عن نفسها ضد أي عدوان. لن تتنازلَ إيران أبدًا عن حقها غير القابل للتصرُّف في الاستخدام السلمي للمعرفة والطاقة النووية”.

إنَّ التوافُقَ بين مختلف الفصائل الناشئ حول السياسة النووية لافتٌ للانتباه بشكلٍ خاص. فقد انتقدت افتتاحياتٌ عديدة من وسائل إعلام ذات توجُّهٍ إصلاحي التقارير “الغامضة والمُريبة” الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مُدّعيةً أنها منحت إسرائيل ذريعةً لشنّ هجوم، بينما فشلت في الدفاع عن سلامة نظام الضمانات الخاص بها. وقد استغلّ المتشدّدون هذه اللحظة لتوسيع نطاق رؤاهم. فقد نشرت “كيهان”، الصحيفة الرائدة للمؤسّسة المحافظة في إيران، افتتاحيةً ناريةً تُطالب البرلمان، “بإصدارِ تفويضٍ لتطويرِ الصواريخ الباليستية العابرة للقارات لتوجيه ضرباتٍ انتقامية على الأراضي الأميركية”، ودعت في الوقت نفسه إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 90%، في إشارةٍ إلى أنَّ الضغط العسكري للغرب “لن يؤدّي إلّا إلى تعميق مخاوفه” بدلًا من كَبحِ تقدّمِ إيران.

ومع ذلك، حتى في خضمِّ هذا التشدد، ثمّةُ مؤشّرات إلى بروزِ مسارٍ موازٍ – مسارٌ يهدفُ إلى الجمعِ بين الردع والديبلوماسية. فقد دعا البعضُ إيران إلى اتباع استراتيجية مزدوجة: بناء دفاع قوي مع مراعاة الديبلوماسية. وأشارَ محلّلُ السياسة الخارجية رحمان قهرمانبور إلى أنَّ “المسارَ الديبلوماسي يجب أن يبقى مفتوحًا، حتى وإن تطلّبت ساحة المعركة القوة والحكمة”. وأقرّ بأنَّ التفاوضَ في زمنِ الحرب أصعب بكثير، لكن القوة العسكرية الموثوقة، وللمفارقة، يمكنها تعزيز النفوذ الديبلوماسي بردع المزيد من الإكراه. وأوضح قائلًا: “يجب على الجيش إظهار قدراته حتى تنخفض الضغوط الخارجية ويزداد وزن الديبلوماسية”.

وقد واكبَت التصعيدَ الخطابي خطواتٌ سياسية محددة. فبعد وقف إطلاق النار، أقرّ البرلمان الإيراني تشريعًا يُعلِّقُ التعاونَ مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ما لم تُقدّم ضماناتٍ أمنية للمواقع النووية، رابطًا الشفافية النووية مباشرةً بالدفاع الوطني. ووصفَ المتحدث باسم وزارة الخارجية إسماعيل بقائي هذه الخطوة بأنها ردٌّ على خيانة زمن الحرب، قائلًا: “إنَّ تعليقَ التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية هو ردٌّ على الهجمات غير القانونية على إيران”، مضيفًا: “كنا نتوقع من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إدانةَ العدوان بوضوحٍ وقوة، لكنها للأسف لم تفعل”.

وذهبَ النائب سيد محمود نبويان إلى أبعد من ذلك، زاعمًا أنَّ تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية مكّنت إسرائيل من استهداف المواقع النووية: “حتى الآن، كنا نقدّم تقارير عن أنشطتنا النووية إلى الوكالة، ولكن للأسف سُلّمت هذه التقارير مباشرةً إلى النظام الصهيوني. لذا، يحظّر هذا القانون تقديم أي معلومات إلى الوكالة”. يُمثّل مشروع القانون موقفًا أكثر عدائية تجاه الرقابة الدولية، ويُبرّرُ فرض قيود جديدة على الشفافية بذريعة حماية الأمن القومي.

لا تَعكُسُ هذه التطوّرات مجتمعةً انقطاعًا تامًا عن الديبلوماسية، بل تحوّلًا في كيفية تصوّر إيران لها. لم يَعُد البرنامج النووي يُصوَّرُ كورقة مساومة تُقايَضُ مقابل تخفيف العقوبات. بل يُعاد صياغته كجُزءٍ لا يتجزّأ من الدفاع الوطني – جُزءٌ صمد في وجه الحرب ويجب حمايته الآن من التهديدات المستقبلية. ليس من الواضح ما إذا كانت إيران ستختار التسلّح. ومع ذلك، من الواضح بشكلٍ متزايد أنَّ أهمّية المسألة النووية قد تصاعدت في نقاش الأمن القومي.

يكشفُ إعادةُ تقييم إيران استراتيجيتها بعد الحرب عن أُمّةٍ تُصارع تداعيات ما تُقرّ جميع الأطراف بأنه اختبارٌ مهمٌّ لأمنها. اليوم، لم يَعُد النقاش يدور حول القدرة فحسب، بل حول البقاء. يبقى أن نرى ما إذا كان هذا التقارُبُ سيُسفِرُ عن إصلاحاتٍ جادة أم سيعود إلى التقشّف. لكن ما هو واضحٌ هو أنَّ الحربَ حوّلت الردعَ من عقيدةٍ جامدةٍ إلى مشروعٍ سياسيٍّ مُتنازَعٍ عليه.

لم يُضفِ انتهاءُ الأعمال العدائية المفتوحة وضوحًا على التوجُّه الاستراتيجي لإيران. بل كشفَ عن جهدٍ مستمرٍّ داخل المؤسَّستَين السياسية والعسكرية حولَ كيفية تفسير نتائج الحرب، ونوع الموقف الدفاعي الذي ينبغي أن يُوجِّهَ البلاد في المستقبل. لا تزالُ موضوعاتٌ راسخةٌ كالاعتماد على الذات، والتطوير العسكري المحلّي، والصمود الإيديولوجي قائمة، لكنها تُضافُ إليها الآن مخاوفٌ أكثر جديةً: الإرهاق الاقتصادي، والاضطرابات الاجتماعية، والتغلغل المُقلق من قِبَل الاستخبارات الإسرائيلية، وتآكل المفاجأة الاستراتيجية. لم يَعُد السؤالُ يقتصرُ على ما إذا كان الردعُ الإيراني قد صمد؛ بل ما إذا كان أساسُ هذا الردع بأكمله لا يزالُ قابلًا للاستمرار.

Exit mobile version