غزة هي أخطر مكان للصحافيين على وجه الأرض

في العام 1992، كُنا نعتبرُ البوسنة أخطر مكان على وجه الأرض بالنسبة إلى الصحافيين، أما اليوم، فيُطلَقُ هذا اللقب الرهيب على غزة، حيث يُكافِحُ الصحافيون للكتابة عن نزوح 90% من السكان وتدمير 80% من المباني.

أقارب يشيعون جثمان الصحافي أحمد منصور في مجمع ناصر الطبي بخان يونس جنوب قطاع غزة في 8 نيسان/أبريل 2025.

جانين دي جيوفاني*

وفقًا لدراسةٍ جديدة نشرتها جامعة “براون” الأميركية في الأول من نيسان (أبريل)، فإنَّ عدد الصحافيين الفلسطينيين الذين قُتلوا على أيدي الجيش الإسرائيلي يفوق إجمالي عدد الصحافيين الذين قُتلوا في الحرب الأهلية الأميركية، والحربَين العالميتَين الأولى والثانية، والحرب الكورية، وأربعة صراعات أخرى – بما في ذلك يوغوسلافيا السابقة، وكمبوديا، وحروب ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001.

حتى 26 آذار (مارس) الفائت، قُتِلَ 263 صحافيًا وعاملَ إغاثة فلسطينيًا منذ بدء الحرب في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

كان صحافيو غزة يؤدّون عملهم بكلِّ بساطة: إخبارُنا بما لا يستطيع الصحافيون الدوليون، الذين تمنعهم السلطات الإسرائيلية من دخول قطاع غزة، القيام به. بدونهم، نتغافل ولا نعلم شيئًا عن جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل ضد المدنيين في غزة.

إنهم يشهدون ويُشاهدون جرائم حرب يمكن استخدامها لاحقًا كأدلّة في محكمة لاهاي. خلال الحرب الأهلية السورية، نقلت تقارير عدة أنَّ عمال الطوارئ في “الخوذ البيضاء” استُهدِفوا لأنهم كانوا يرتدون كاميرات “Go-Pro” على خوذهم، لتوثيق الحرب.

يجب حماية الصحافيين بموجب اتفاقيات جنيف طالما لم يشاركوا في الأعمال العدائية. لكن إسرائيل لم تلتزم بأيِّ قانونٍ دولي. في وقتٍ سابق من هذا الشهر، تحدّى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مذكّرة توقيف صادرة بحقّه عن المحكمة الجنائية الدولية بسفره إلى المجر. ربما يكون الصحافيون أكبر تهديد له، بل يفوق تهديد صواريخ “حماس”.

تقول جودي غينسبيرغ، الرئيسة التنفيذية للجنة حماية الصحافيين: “كانت حرب إسرائيل وغزة أعنف صراع وَثَّقتهُ لجنة حماية الصحافيين على الإطلاق، وهي حربٌ غير مسبوقة من حيث الدمار الذي ألحقته بالصحافة المحلية، وكذلك من حيث الحظر الكامل على وصول وسائل الإعلام المستقلة من الخارج”.

كان من بين القتلى حسام شبات، البالغ من العمر 23 عامًا، والذي عمل في قناة “الجزيرة مباشر”. كتبَ رسالةً مؤثّرة قبل مقتله في أواخر آذار (مارس) في شمال غزة. إذا كُنتَ تقرأ هذه الرسالة، فهذا يعني أنني قُتِلت -على الأرجح مُستَهدَفًا- على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي: “وثّقتُ الأهوال في شمال غزة دقيقةً بدقيقة، مُصمِّمًا على أن أُظهِرَ للعالم الحقيقة التي حاولوا طمسها. نمتُ على الأرصفة، في المدارس، في الخيام – أينما استطعتُ. كان كلُّ يومٍ معركةً من أجل البقاء. تحمّلتُ الجوع لشهور، ومع ذلك لم أفارق شعبي قط”.

بدأ شبات العمل الصحافي قبل إتمام دراسته الجامعية مع تصاعُد الحرب، رافضًا الانتقال جنوبًا مع عائلته أثناء إجلاء المدنيين. انفصل عنهم لأكثر من 400 يوم. قبل وفاته بفترةٍ وجيزة، نشر صورةً للقائه السعيد بوالدته بعد 427 يومًا. والآن، يحاول صقور إسرائيل تشويه سمعة شبات بزَعمِ أنه كان عميلًا ل”حماس”. هذا هو أسهل ما يفعلونه: يُوصَفُ أيُّ شخصٍ ينتقد السياسة الإسرائيلية بأنه مُؤيِّدٌ ل”حماس” – بمن فيهم المراسلون والأكاديميون الأجانب.

بصفتي مراسلة حرب سابقة فَقَدَت العديد من الزملاء في ساحة المعركة، فأنا أعرف جيدًا مخاطر تغطية الحرب. لكن الصحافيين في غزة الذين يموتون هم حالة مختلفة تمامًا عن زملائي الذين لقوا حتفهم في البوسنة أو سيراليون أو سوريا.

هناك، وقعوا في مرمى النيران المتبادلة أو هجمات بقذائف الهاون أو رصاصة قناص غير محظوظة (باستثناء الزملاء الذين لقوا حتفهم في كمينٍ نصبته قوات المتمرّدين في فريتاون، عاصمة سيراليون، في أيار/مايو 2000). يموت الغزّيون لأنَّ القوات الإسرائيلية، على ما يبدو، لا تريد لهم أن يعيشوا ليرووا قصتهم.

في الأسبوع الفائت، في بيروجيا، إيطاليا، اجتمع آلاف الصحافيين من جميع أنحاء العالم لحضور مهرجان الصحافة الدولي الذي استمرَّ خمسة أيام واختتم أعماله يوم الأحد الفائت. هناك، حضر الصحافيون والباحثون ومسؤولو وسائل الإعلام والمانحون حلقاتَ نقاش وورش عمل ومناقشات حول التهديدات التي تواجه الإعلام في المجتمع، بالإضافة إلى تسليط الضوء على المخاطر والقيود.

في العام الماضي، جَمَعَت غينسبيرغ، من لجنة حماية الصحافيين، مئات الصحافيين في ساحة البلدة للوقوف دقيقة صمت تضامنًا مع الصحافيين الغزّاويين. كانت تلك إحدى أكثر اللحظات المؤثرة في مسيرتي المهنية الطويلة.

أودُّ أن أُصَدِّقَ أنَّ السلطات الإسرائيلية ستقرأ تقرير جامعة براون وتتأمّل في تأثيره على سمعتها. لكن آلة الدعاية الإسرائيلية، المعروفة باسم “هاسبارا” أو “التفسير”، تُغذي الشعب بنسخة مختلفة تمامًا عن الحقيقة.

لطالما اعتقدت القيادة الإسرائيلية أنه من الضروري “تشويه الحقيقة بشكلٍ عدواني للتلاعُب بالخصوم والحلفاء”، وفقًا لتقريرٍ نُشِرَ في موقع “ذا إنترسيبت” (The Intercept). بقيادة حزب الليكود والموالين لنتنياهو، فإنها تُعيدُ كتابة التاريخ.

لكن كل هذا لا يُخفّف عن عائلات الصحافيين الـ 263 الحزينة. كما إنه لا يُسهم في ملء الفراغ المعلوماتي الذي خلّفه موتهم.

مع ذلك، فإنَّ مقتلهم يزيد من عزيمة الصحافيين الغزّاويين الآخرين وثباتهم. فهم يواصلون مسيرتهم، مُدرِكين أنَّ عملهم بالغ الأهمية. في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، كُنتُ عضوًا في لجنة تحكيم جائزة بايو لمُراسلي الحرب في فرنسا، وهي إحدى أعرق الجوائز الصحافية. وقد اكتسح الصحافيون الغزّاويون، على جميع الصعد الإعلامية -الأفلام الوثائقية الطويلة والقصيرة، والصحافة المطبوعة والإذاعية- جميع الجوائز تقريبًا، مُحقِّقين بذلك إنجازًا ليس بالسهل في سوقٍ تنافسية للغاية.

تقول غينسبيرغ إنَّ هذه الفترة هي الأشد فتكًا بالصحافيين منذ أن بدأت لجنة حماية الصحافيين جمع البيانات في العام 1992، خلال حرب البوسنة. في تلك الأيام، كُنا نعتبرُ البوسنة أخطر مكان على وجه الأرض. أما اليوم، فيُطلَقُ هذا اللقب الرهيب على غزة، حيث يُكافِحُ الصحافيون لللكتابة ووصف نزوح 90% من السكان وتدمير 80% من المباني.

ويتعرّضُ هؤلاء الصحافيون للتجويع والقصف والحرمان من الرعاية الطبية ويعانون من تهديداتٍ عديدة مثل الهجمات الإلكترونية والرقابة وقتل أفراد عائلاتهم حتى أثناء محاولتهم العمل.

أتمنّى أن يخصص الجميع لحظةً للبحث عن أسماء كلٍّ منهم، والنظر إلى صورهم، وتذكر حياتهم القصيرة تكريمًا لهم. كما أتمنى أن نتذكر دائمًا مساهمتهم الشجاعة في الحفاظ على مصداقية الرواية في واحدة من أفظع الحروب ضد المدنيين في التاريخ الحديث.

Exit mobile version