الهند تُوَسِّعُ نطاقَ نُفوذِها في الشرقِ الأوسط

في حين سيتعيّن على الهند السير على حبلٍ مشدود ديبلوماسيًا بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فمن الواضح أنها تسعى إلى كتابةِ الفصلِ التالي من مشاركتها الإقليمية في الشرق الأوسط بشكلٍ مستقل كما يُوَضّح المقال الآتي.

خلال قمة دول العشرين في نيودلهي في العام 2023: الإعلان عن مشروع الممر الاقتصادي بين الهند، الشرق الأوسط وأوروبا بحضور جو بايدن، ناريندرا مودي والأمير محمد بن سلمان.

جوناثان فينتون-هارفي*

يُعتَبَرُ توسُّعُ نفوذِ الهند في الشرق الأوسط من أبرزِ المؤشرات إلى تحوّلِ المنطقة إلى عصرٍ مُتَعَدّد الأقطاب. وبينما تُواصِلُ نيودلهي الاستفادة من انسجامها مع الأُطُرِ التي تُرَسّخها الولايات المتحدة في المنطقة، فإنها تستغلّ هذه الشبكات بشكلٍ متزايد لتعزيز مصالحها الوطنية وتوسيع نفوذها الاقتصادي في آنٍ واحد.

نَظَرَت إدارة الرئيس السابق جو بايدن إلى الهند كقوّةٍ مُوازِنة للنفوذ الصيني في الشرق الأوسط. ونتيجةً لذلك، أيّدت مشاركة نيودلهي في الأُطُرِ الاستراتيجية والاقتصادية مثل تجمّع “I2U2” الذي يضمّ إسرائيل والهند والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة، والذي تأسّس في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، والممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، الذي أُطلق في أيلول (سبتمبر) 2023.

حتى الآن، حظي كلا الإطارين بتأييدٍ جديدٍ من واشنطن في عهد الرئيس دونالد ترامب. على سبيل المثال، خلال زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي لواشنطن في منتصف شباط (فبراير) الفائت، أشاد ترامب بـالممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا ووصفه بأنه “أحد أعظم طرق التجارة في التاريخ”. لذا، بينما تُواجه الهند الضغوطَ نفسها التي يواجهها العديد من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في ما يتعلق بالرسوم الجمركية، يبدو أنها تستفيد حاليًا من إعادةِ تقييم إدارة ترامب للقيمة الاستراتيجية لتلك التحالفات.

مع ذلك، تسعى نيودلهي الآن إلى الاستفادة من هذه الشبكات التي تُرَسّخها الولايات المتحدة لتعميق العلاقات الثُنائية والسعي إلى سياسةٍ خارجية مستقلّة في المنطقة.

وكانت دول الخليج، على وجه الخصوص، حيويةً لتوغُّل الهند في الشرق الأوسط وما ورائه. أوّلًا، لا تزال المنطقة مصدرًا حيويًا للنفط بالنسبة إلى الهند، وتُعد العلاقات مع مجلس التعاون الخليجي ضرورية لضمان أمنها الطاقي. ثانيًا، لا يُشكل المغتربون الهنود البالغ عددهم حوالي 9 ملايين عامل في الخليج أكثر من ثلث التحويلات المالية السنوية للهند فحسب، بل يُمثلون أيضًا مدخلًا لعلاقاتٍ اقتصادية ثنائية أوسع.

لقد سعت الهند في عهد مودي إلى كتابةِ فصلٍ جديد في انخراطها الإقليمي، ساعيةً إلى جذبِ استثماراتٍ ثُنائية من شُركائها الخليجيين. وقد تزامن ذلك مع النمو الاقتصادي المتسارع للهند، والذي جعلها تُصبح مُصدّرًا رئيسًا إلى المنطقة لسلعٍ مثل الوقود المُكرَّر والمنتجات الغذائية والمجوهرات والأحجار الكريمة والآلات والمنسوجات.

انعكاسًا لهذا الارتباط المتنامي، بدأت الهند تنويع علاقاتها المتنامية مع قطر، والتي كانت ترتكزُ في السابق على الغاز. في 18 شباط (فبراير)، ارتقى البلدان بعلاقاتهما إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، بتوقيعِ خمسِ مذكّرات تفاهُم تُغطّي الاستثمار والتجارة والطاقة. والتزمت الدوحة باستثمار 10 مليارات دولار في الهند في قطاعات مثل البنية التحتية والتصنيع، بينما حدّدَ الجانبان هدفهما لخمس سنوات لبلوغِ حَجمِ التجارة الثنائية 28 مليار دولار، أي ضعف القيمة الحالية.

بالإضافة إلى توطيدِ علاقاتها مع الدوحة، سعت نيودلهي أيضًا إلى تعزيز التعاون مع الإمارات العربية المتحدة، التي تُعَدُّ شريكًا اقتصاديًا محوريًا للهند. ومنذ تطبيق البلدين لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة -وهي أول اتفاقية تجارية شاملة من نوعها للهند- في أيار (مايو) 2022، تضاعفَ حجمُ التجارة الثنائية تقريبًا من 43.3 مليار دولار أميركي في الفترة 2020-2021 إلى 83.7 مليار دولار أميركي في الفترة 2023-2024.

إلى جانب زيادة التجارة الثنائية، استكشفت الهند التجارة بغير الدولار مع كلٍّ من الإمارات العربية المتحدة وقطر، مستخدمةً عملتيهما كبدائل للتسويات المالية. على سبيل المثال، عقب اتفاقهما التجاري، سهّلت نيودلهي وأبو ظبي بشكلٍ متزايد كلًا من التجارة غير النفطية ومعاملات النفط الخام بالروبية الهندية والدرهم الإماراتي. ورُغمَ أنَّ هذه الاتفاقية لا تزال تُغطّي جُزءًا ضئيلًا فقط من إجمالي تجارتهما، إلّا أنها تُشكّل سابقةً في المنطقة. في الواقع، وافقت قطر أيضًا على استكشاف التجارة بالروبية والريال القطري، بما في ذلك المشتريات الهندية من الغاز الطبيعي المسال القطري.

قد يكونُ هذا مؤشّرًا قويًا إلى ازدياد التجارة غير الدولارية في المستقبل، لا سيما إذا استمرَّ الاقتصاد الهندي في النمو مع تعميقِ علاقاته التجارية مع الشرق الأوسط. وهذا يُبرِزُ سعي الهند نحو مسارٍ اقتصادي مستقل، تماشيًا مع رغبة دول الخليج العربي في تنويع شراكاتها، حتى لو لم تُهدّد هذه المبادرات حاليًا هيمنة الدولار، وخصوصًاً في ما يتعلق بمكانة البترودولار.

علاوةً على ذلك، وكدليلٍ على تحالف نيودلهي مع واشنطن، لا تزال الهند تُرَسِّخُ إلى حدٍّ كبير انخراطها في المنطقة في النظام الإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة. فإلى جانب توغّلاتها في الخليج، عمّقت الهند علاقاتها مع إسرائيل، لا سيما بعد اتفاقيات أبراهام التي رعتها الولايات المتحدة في العام 2020، والتي شهدت تطبيع إسرائيل علاقاتها مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين، من بين دول أخرى. وبعد سنواتٍ من قيام مودي بتغيير موقف الهند نحو تحالف أوثق، وإن كان ضمنيًا، مع إسرائيل، مكّنت هذه الاتفاقيات الهند من دعم إسرائيل علنًا من دون قلقٍ بشأن الإضرار بعلاقاتها مع الدول العربية. وكانت هذه المخاوف شكّلت في السابق عائقًا أمام انخراط الهند مع الدولة العبرية.

ومن الناحية الإيديولوجية، تجد الهند وإسرائيل ودول الخليج أيضًا بعضَ التوافق بشأن المخاوف الإقليمية، لا سيما في معارضتها المشتركة للإسلام السياسي وجماعة “الإخوان المسلمين”. وهذا يضيفُ طبقةً أخرى من التماسُك إلى شراكاتها تتجاوز المبادرات التي تقودها الولايات المتحدة مثل تجمع “I2U2″، بالإضافة إلى المزيد من الحوافز لتعاون الهند مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين تعتبرهما منارات “الإسلام المعتدل”.

مع ذلك، لا تزال دوافع العلاقات الهندية-الإسرائيلية الأعمق والأكثر توسُّعًا هي الروابط الاقتصادية والأمنية. منذ تسعينيات القرن الفائت، لعبت الأسلحة الإسرائيلية وتقنيات المراقبة والتدريب الأمني ​​دورًا متزايدًا في جهود الهند لبناءِ جيشٍ عالي التقنية، حيث قدمت المساعدة في الأوقات الحرجة مثل حرب كارجيل مع باكستان في العام 1999. ومع مرور الوقت، أصبحت هذه الشراكة أكثر تبادُلية، حيث تُصدّرُ الهند الآن معدّات عسكرية إلى إسرائيل، بما في ذلك المتفجرات والذخائر والطائرات المُسَيَّرة، والتي ورد أنها استُخدِمت في غزة.

من الناحية الاقتصادية، أدى ذلك إلى زيادة التعاون الثلاثي مع إسرائيل وشركاء الهند في الخليج. على سبيل المثال، حظيت مبادرات التكنولوجيا الزراعية الإسرائيلية في الهند، مثل الري بالتنقيط والزراعة الصحراوية، بدعمٍ إماراتي، مما يُبرز التقارب بين التكنولوجيا الإسرائيلية والبرامج الزراعية الهندية ورأس المال الخليجي. وبينما يعتمد هذا على إطار عمل تجمُّع “I2U2″، فإنَّ المبادرات نفسها تتوسّعُ إلى ما هو أبعد من ذلك.

وعلى الرُغم من أنَّ غيابَ التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية يَحولُ دونَ إشراكِ الرياض في أيِّ تعاونٍ رسمي أعمق على المستوى متعدد الأطراف، فقد انضمّت الرياض إلى أبو ظبي لتعزيز العلاقات مع نيودلهي، لا سيما في قطاعات الطاقة والأمن والخدمات اللوجستية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك مشروع مشترك بقيمة 50 مليار دولار بين “أرامكو السعودية” وشركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك) الإماراتية وشركات هندية مملوكة للدولة لتطوير مشروع مصفاة وبتروكيماويات الساحل الغربي الضخم في نيودلهي في ولاية ماهاراشترا.

وإلى جانب التبادلات التجارية، أطلقت الهند والإمارات العربية المتحدة أيضًا مشاريع اتصال تسعى إلى تعزيز مخططات الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا متعددة الأطراف على مستوى ثنائي أوسع. ويبدو أنَّ هذا الاتجاه مستمر بالنظر إلى أنَّ الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا حظي باهتمام متابعة محدود من إدارة بايدن بسبب تداعيات الحرب في غزة، وخصوصًا التوترات بين إسرائيل وإيران التي تهدد حاجة الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا إلى الاستقرار الإقليمي.

مع ذلك، فإنَّ سعي الهند إلى التجارة غير الدولارية والاستثمار الثنائي في البنية التحتية يشيرُ إلى رغبة نيودلهي في السعي إلى أُطُرِ تعاوُنٍ لا تقتصر على مدار واشنطن. وبينما أعربت الهند عن حرصها على التعاون ضمن إطارَي الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا وتجمّع “I2U2″، فقد أثبتت قدرتها على المضي قدمًا في تنفيذ العناصر الأساسية لهذه الأطر بدون تدخُّلٍ أميركي مُكثَّف. وهذا يُكمّل في نهاية المطاف هدف الهند المتمثّل في الحفاظ على سياسة خارجية مرنة وغير منحازة.

بهذا المعنى، وعلى الرغم مما قد يكون بعض صناع السياسات في الولايات المتحدة قد تَصَوَّرَه، فإنَّ هذين الإطارَين وَفّرا للهند نقطة انطلاق وليس مقودًا في مشاركتها الإقليمية. وقد عزز دعم ترامب المستمر للممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا وتجمُّع “I2U2″، إلى جانب إشادته العلنية بمودي خلال اجتماعهما الذي ركز على الأعمال التجارية في شباط (فبراير)، من جاذبيتهما لدى البيت الأبيض، على الأقل من حيث المبدَإِ.

مع ذلك، قد تكون هناك عقبات أخرى أمام تنفيذ الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا إلى جانب التهديدات التي يتعرّض لها الاستقرار الإقليمي. على سبيل المثال، قد تُعيقُ رسومُ ترامب الجمركية على السلع الأوروبية، وسياساته التجارية غير المُتَوَقَّعة، التنسيقَ داخل الدول المشاركة في مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. كما إنَّ فرضَ رسومٍ جمركية بنسبة 27% على الهند في الأسبوع الماضي قد يزيد من رغبتها في السعي إلى تحقيقِ استقلاليةٍ استراتيجية في العلاقات الاقتصادية، بما في ذلك مع شركائها الأوروبيين والشرق أوسطيين، حتى مع استمرارها في التفاوُض على شروطٍ تجارية أكثر مُلاءَمة مع واشنطن في المدى القصير، نظرًا لأن الولايات المتحدة لا تزال أكبر وجهة لصادرات نيودلهي.

وإلى جانب الرسوم الجمركية، لا تزال هناك نقاطُ خلافٍ أخرى في العلاقات الثنائية، بما في ذلك عضوية الهند في مجموعة “بريكس”. ربما يكون تحذير ترامب من فَرضِ رسومٍ جمركية وعقوباتٍ أخرى على أعضاء مجموعة “بريكس” إذا سعوا إلى تحدّي هيمنة الدولار قد وضع الهند على المحك، حتى لو كانت تجارتها غير الدولارية هامشية في هذه المرحلة.

علاوةً على ذلك، سيتعيّن على الهند ضمان عدم تقويض علاقتها بإدارة ترامب بسبب علاقاتها مع إيران. في أيار (مايو) 2024، وبعد سنوات من المفاوضات ومذكّرات التفاهم، أبرمت نيودلهي وطهران اتفاقيةً لتطوير وتشغيل ميناء تشابهار الإيراني. لطالما سعت الهند إلى هذه الاتفاقية كوسيلة لتجاوز الطُرُق البرية عبر باكستان لتجارتها مع آسيا الوسطى، مع مواجهة الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني.

كانت معارضة الولايات المتحدة على الدوام أكبر عقبة أمام مثل هذه الاتفاقية، حيث حذّرت إدارة بايدن من عقوباتٍ مُحتملة عند توقيعها العام الماضي. قد تؤدي عودة ترامب إلى حملة “الضغط الأقصى” على إيران إلى زيادة الضغط على نيودلهي بشأن علاقاتها مع طهران، بالنظر إلى أنَّ إدارة ترامب أشارت تحديدًا إلى صفقة ميناء تشابهار عندما طرحت سياستها الجديدة تجاه إيران في شباط (فبراير).

في حين سيتعيّن على الهند السير على حبلٍ مشدود ديبلوماسيًا بعد عودة ترامب، فمن الواضح أنها تسعى إلى كتابة الفصل التالي من مشاركتها الإقليمية في الشرق الأوسط بشكلٍ مستقل. وبينما تعمل نيودلهي مع أُطُرِ عملٍ تقودها واشنطن لتعزيز نفوذها، فإنها تُراهن على الخليج وإسرائيل كشراكتين رئيسيتين يُمكِنُ أن تتقدّما حتى بدون مشاركة أميركية أعمق.

Exit mobile version