لبنان: جَدَلُ “باربي” والسّلاح وعمرو دياب

محمّد قوّاص*

لا جديدَ في تكرارِ مُسلّمةِ تعرّضِ لبنان لأكبرِ انهيارٍ اقتصادي ومالي ومصرفي مند تشكّل كيانه الحالي. وإذا أضفنا إلى انهيار القوة الشرائية ما يتعلق بأزمة الكهرباء وتدهور مستوى الأمن وتضخم الضائقة الجماعية للمواطنين، فإنَّ البلدَ في المؤشّرات الدولية من بين أسوَإِ الأزمات الاقتصادية التي شهدها العالم منذُ مُنتَصَفِ القرن التاسع عشر، وفق تقريرٍ للبنك الدولي في العام 2021.

لا يمنع الأمر، للمُفارقة (وكم هي كثيرة مُفارقات لبنان)، من اندلاعِ سجالاتٍ، قد تكونُ مُخَصّبةً بكثيرٍ من الترف، حول رأيِ النُخَبِ بشأنِ الواردِ من الخارج، سواءَ تعلّقَ بالجندر والسلوك الجنسي، أم الموقف من فيلم “باربي”، وحتى الهلع من “ظاهرة” الحفل الغنائي الذي قدمه عمرو دياب في العاصمة بيروت.

والواقع أنَّ اللبنانيين دون غيرهم من شعوب المنطقة (أو على الأقل ليس بهذه الحدّة) مُنخرطون في سجالاتٍ بشأن مجتمع الميم وكأنّهُ جائحةٌ داهمةٌ وجبَ ردّها والتصدّي لها في عزِّ مصابهم، لتمدّدها إلى داخل النسيج المجتمعي والثقافي والقِيَمي اللبناني، مقابل اتّساع فضاءات داخلية تدعو إلى التسامح والاتّساق مع شروط العصر وقِيَمِه.

واللافت أنَّ ما ظاهره اجتماعيّ ثقافيّ يخفي في ثناياه انقسامًا سياسيًا واصطفافًا قد يشبه ذلك الذي بات تقليديًا منذُ العام 2005 حتى الآن. صحيحٌ أنَّ قضايا القِيَمِ المُستَورَدة تصطدمُ بالمحافظة المُجتمعية والدينية، أيًّا كانت طبيعة الاصطفاف السياسي لهذا وذاك، غير أنَّ الدفعَ نحو تسعيرِ نقاشٍ، من هذا النوع، وفي هذا الظرف، يهدفُ إلى شدِّ عصبٍ نحو قضايا يُفتَرَضُ أن تكونَ مُفتَعَلة فائضة في توقيتها، أو على الأقل لا تمسُّ الأولويات الساخنة التي يفرضها الانهيار اللبناني غير المسبوق.

يأتي الجدلُ بواجهاته التي برزت بعد صدورِ موقفٍ عن وزير الثقافة اللبناني، محمد وسام المرتضى،  رادعٍ مانعِ لعَرضِ فيلم “باربي” في لبنان. علمًا أنَّ أمرَ البتّ بمسألةٍ من هذا النوع يُفترض أنه مُناطٌ بوزارة الداخلية ولجان الأمن العام الرقابية المُختصّة. وإذا ما شهدَ السجالُ جولاتٍ بين الوزير وأحد النواب اللبنانيين “التغييريين”، مارك ضو، فإنَّ الفعلَ وما تلاه من ردِّ الفعلِ على ردّ الفعلِ نجحَ بمهارةٍ في مواراة ما اندلعَ من سجالٍ بشأنِ حادثةِ بلدة الكحّالة وجريمة بلدة عين إبل وتجوال سلاح “حزب الله” داخل البلد وفي قلب مدنه وأحيائه من دون تحفّظٍ أو وَجَل.

والحال، فإنَّ الجَدَلَ حول “باربي” وشرورها الميمية المزعومة (كثرٌ ممن شاهدوا الفيلم في الدول العربية لم يجدوا فيه ما اكتُشِفَ في لبنان) هو جدلٌ بشأنِ سَطوةِ السلاح وما يفرضه من نصوصٍ قهرية تفرضُ شكلَ الحربِ ضد “الانحلالِ” الغربي المُتسَلّلِ إلى البلد المُقاوِم بامتياز. والكلامُ عن “الشكلِ” ليس عرضيًا، ذلكَ أنَّ المواقفَ التي تصدرُ عن “أولي الشأن والاختصاص” مثل رجال الدين والمؤسّسات الروحية تبقى منطقية الوظائف متّسقة مع سياقات ونصوص وأسباب وجود، فيما انطلاقها شكلًا من الوزير “المُقاوم” يلابس مشروعًا يتولّى المقام الوزاري التبشير بتصديره من داخل بيئة المقاومة إلى بيئة البلد برمّته.

وليست مصادفة أنَّ المؤسّسات الدينية، التي لا غرابة في أن تستنكرَ وترفضَ زحفَ مُثُلِ مجتمع الميم نحو فضاءات المؤمنين، لم تشارك في الجدل الأخير بين الوزير وأنصاره والنائب وداعميه بشأن فيلم “باربي”. فإذا ما اتفقت تلك المراجع الدينية على وجاهة المرافعة الوزارية، غير أنها، وهي المُدرِكة للأمر، لن تنجرَّ إلى معركةٍ “سياسوية” لها توقيتها وأجنداتها المحسوبة ودخانها الشعبوي على طريقة “كلام حقّ يُرادُ له باطل”.

ولئن ينخرط الموقفُ من سلاحِ “حزب الله” وظاهرة السلاح عمومًا في لبنان في تحديدِ خيارات البلد بشأن ثقافة الموت وثقافة الحياة، فإنَّ الإفراطَ المرضيَّ في تدفّق المواقف التي عابت على الذين حضروا حفل عمرو دياب فعلتهم، يكشف جاهزية البلد لخَوضِ معركة مفاهيم حرّضت الجماعات اللبنانية باصطفافاتها المُتعدّدة المُتضاربة المُتقاطعة على الإدلاء بدلوٍ تلوَ دلو، ونجحت في جرّ الجميع إلى نقاشٍ قد يُشبه اللبنانيين أنفسهم في التحديث اليومي لمزاجهم حول شؤون البلد.

بلغ الإسرافُ في الجدل حدودًا مُتشظّية ما بين المدافعين عن فرح اللبنانيين واندفاعهم بالتعبير عن ذلك في ارتياد مهرجانات الثقافة والموسيقى والفن في كل مناطق لبنان، بما في ذلك حضور الـ”Mega concert” الذي أحياه عمرو دياب في عاصمتهم، ومَن يستغربون السلوك ويعتبرونه عيبًا وعارًا. ولئن لم يُفكّر مَن حضروا الحفل واستجابوا لشروط الهندام الأبيض بأيِّ خلفياتٍ تتجاوزُ اندفاعهم المألوف لحضور الحفلات الموسيقية لفنانين لبنانيين وعرب وأجانب، غير أنَّ في مسألة “ثقافة العيش” ما هو استفزاز لـ”ثقافة الموت” التي ما فتئ الحزب يرفع بيرقها ويدفع بأصولها في ما يدّعيه من زهد ويدعو إليه.

في المقابل، فإنَّ منابرَ عدة ذهبت إلى المشاركة في جوقة تقريعِ الحفل بالتشكيك بقيمة دياب الفنّية ومُقارنته بوجوه الفن الكبار الذين شهدهم “الزمن الجميل”. في ذلك أنَّ المسألة تعلقت بالذائقة الناهلة من بكاءٍ على زمنٍ كانت “العزّة السياسية” تنتجُ فنًّا أصيلًا. وحتى في هذا التقييم المتعجّل لفنانٍ مصري ما زال منذ عقود، أحببناه أو كرهناه، يحتلُّ المراتب الأولى، تبرزُ نوستالجيا إلى زمنٍ متخيّلٍ لا نذكر أنه كان حاملًا لانتصاراتٍ مُبهرة، بل شاهدًا على نكبةٍ ونكسة ما زالت آثارهما تفتك بحاضرنا حتى هذا اليوم، وهو زمنٌ ما زالت محاكمته قائمة بشأن مسؤوليته عن ولادة كوارث أيامنا هذه.

والواضح أنَّ الجدلَ بشأن “الاستيراد” الميمي أو رواج حفلات الفن وما يزعم لها من “انحلالٍ ومجون” لن يبقى عرضيًا، بل سيكون من الأدوات الناجحة الناجعة لإرباكِ أيِّ نقاشٍ جدّي بشأن منظومة الحكم وضواحيها المصرفية ومزاريب الهدر وشبهات الفساد التابعة لها، أو للالتفاف على أيِّ مُطالبةٍ لتسليطِ الضوءِ على ملف سلاح “حزب الله” بصفته العامل الأول المُزعزع لأمن اللبنانيين والمُسبّب للجفاء العربي وعزلة البلد عن بيئته المالية الحاضنة القريبة والبعيدة، والمهدّد البنيوي لقيامِ دولةٍ في لبنان.

Exit mobile version