هل يبقى مكسورًا حلْمُ فان غوخ؟ (1 من 2)

واجهة النزْل كما كانت أَيام فان غوخ…

هنري زغيب*

يغيبُ المبدع عن المكان ويبقى المكانُ يتيمًا حتى يأْتي مَن يحرِّكُ طيفَ المبدع الغائب كي تبقى حيَّةً ذاكرةُ المكان. هذا ما سعى إِليه، في مرحلةٍ أُولى، رجلُ الأَعمال البلجيكي دومينيك جانْجِنْس (رئيس “مؤَسسة فان غوخ”)، فاشترى النزْلَ الذي عاش فيه فان غوخ الأَسابيع الأَخيرة من حياته، وفيه تُوُفي عن 37 سنة على سرير غرفته الضيِّقة نهار 29 تموز 1890.

بقيت أَمام دومينيك جانْجِنْس Janssens المرحلةُ التالية التي يسعى إِليها، وهي موضوع هذا المقال.

… وكما هي اليوم

ذاك النزل الذي دَخَل التاريخ

في رسالة فان غوخ إِلى شقيقه تيو، قبل ستة أَسابيع من وفاته، كتَب: “أَظنُّنني سأَتمكَّن يومًا من إِقامة معرضٍ لأَعمالي في مقهى” (10 حزيران/يونيو 1890). لذا تعهَّد دومينيك جانْجِنسْ أَن يحقِّق حلْم الفنان بعرض لوحةٍ له (أَو أَكثر) داخل نزْل راڤو Ravoux الذي توفي فيه فان غوخ.

فماذا بين هذا النزْل وفان غوخ؟

في 20 أَيار/مايو 1890 وصل فان غوخ إِلى هذا النزْل، واستأْجر فيه الغرفة رقم 5، لقاء 3،5 فرنكات يوميًّا. كانت تلك الغرفة في علّيّة متقشِّفة صغيرة (الطبقة االثانية). وكانت ضيِّقة (7 أَمتار مربعة) إِنما تنيرها نافذة في سقفها كانت تساعد فان غوخ على الرسم. كانت تلك الغرفة الصغيرة كلَّ عالَمه الخاص، يأْوي إِليها بعد نهار طويل من الرسم خارجًا في الطبيعة. وظلَّ فيها حتى 28 تموز/يوليو حين وقف تيو إِلى سرير شقيقه فنسنت المحتضر، بعد حادثة انتحاره بإِطلاق النار على صدره حتى لفظ نَفَسَه الأَخير  صباح اليوم التالي (29). وبقيت تلك الغرفة لا يسكنها أَحد، توجُّسًا من أَنها “غرفة الانتحار”.

ذاك النزْل، قرب محطة القطار في قلب بلدة أُوفير Auvers-sur-Oise الهادئة (على نحو 35 كلم شماليّ غربيّ باريس) كان آخر مكانٍ سكن فيه فان غوخ الذي تنقَّل في حياته القصيرة (37 عامًا) في لا أَقلّ من 37 مكانًا بين هولندا وبلجيكا وإِنكلترا وفرنسا.

غرفة نوم فان غوخ كما كانت على أَيامه…

“بيت فان غوخ”

هذا النزْل اليوم أَصبح على لائحة المواقع التاريخية الفرنسية. لذا ما زال حتى اليوم (منذ وفاة الفنان قبل 133 سنة) على حاله بدون أَيِّ تعديل، وخصوصًا الغرفة العالية في العلّيّة، لأَن “روح الفنان ما زالت تعيش فيها”، وهي التي أَعطت وما زالت تعطي شهرةً عالَمية هذا النزْلَ وسائرَ البلدة، حتى أَنه بات يُعرَف بــ”بيت فان غوخ” العابق بالذكريات والجو الفني. لذا غالبًا ما يقصده رسامون وسيَّاح من كل العالَم، ويجلسون في المقهى (الطبقة الأَرضية على مدخله) كي يعيشوا في المناخ الذي كان أَيام سَكَنَهُ فان غوخ، مع أَنه لم يُمْضِ فيه سوى 70 يومًا هي آخرُ أَيام حياته، لكنها بين الأَكثر غزارةً لأَن طبيعة البلدة سَحَرَتْهُ بجمالها ومناخها ومناظرها فرَسَم فيها وعنها ومنها نحو 80 لوحة سجَّلَت مشاهدَ وزوايا من شوارع البلدة وبيوتها ومقاهيها وناسها.

… وكما هي اليوم

شراء النزْل وتكريسُه

سنة 1987 اشترى جانْسِنْسْ النزْل وملحقاته، وهو كان مقهى بسيطًا في قلب البلدة. وفور شرائه أَطلق منه “مؤَسسة فان غوخ”، فرمَّمه من الداخل، وحافظ على شكل واجهته كما كانت سنة 1890 تاريخ وفاة الفنان، وأَبقى على الغرفة رقم 5 كما يومَ تُوفي فيها فنسنت. يصعد إِليها الزوار والسياح ليشاهدوا فيها كرسيًّا واحدًا وسريرًا ضيِّقًا وطاولة صغيرة، فيستذكرون ذاك الشاب الذي أَقدم على الانتحار في ظروف غامضة. وحول تلك الزيارات صرَّح يومها جانْسِنْسْ أَن “الزوار لا يأْتون زوَّارًا بل حجَّاجًا، كما بكل خشوع الدخول إلى مكان مقدَّس”.

كان وراء شراء النزْل، عدا تكريسه “مؤَسسة فان غوخ”، أَن يحقِّق له حلمه بعرض لوحة له أَو أكثر في هذا المكان كما كان يتمنَّى وكتب بذلك إلى شقيقه تيو. لكن الأَسباب الأَمنية حالت دون عرض أَعمال “ثمينة جدًّا” في المقهى عند المدخل المواجه الشارع مباشرةً. وللأَسباب ذاتها حصَّن جانْسِنْسْ غرفةَ العّلّية بسور زجاجي لحفظها من التشويه أَو التخريب، جاعلًا إِياها، كما سمَّاها، “أَصغر متحف في العالم”.

فان غوخ في ذكريات أَدلين

في ذكريات أَدلين ابنة صاحب النزْل – كما دوَّن أَقوالَها الصحافي مارتِن بايلي في كتابه “أَيام فان غوخ الأَخيرة” (2021)، وهو من أَعرف العارفين بالفنان سيرةً ومسيرةً، وأَقام له معرضًا كبيرًا في سكوتلندا سنة 2019) أَن فان غوخ “كان دقيقًا في مواعيد الطعام، يخرج صباحًا ويعود ظُهرًا، يتناول الغداء في الوقت المحدَّد بالضبط، يصعد إِلى غرفته، يرسم قليلًا، ثم يخرُج من جديد، ليعود في الثامنة ليلًا، يتناول العشاء ويصعد إِلى غرفته في العلّيّة يقرأُ أَو يكتب رسائله. لم يتذمَّر يومًا من الطعام (كما قد يحصل مع نزلاء آخرين في أَماكن أُخرى)، بل كان على علاقة ودية جدية مع صاحب النزْل والنزلاء، وكذلك الفنانين فيه، إِذ كان يقصده رسامون آخرون”.

وكان صاحب النزْل يطلب منه أَن يرسم ابنته أَدلين. وعَدَهُ لكنه لم يفعل، لأَنه صدَم الجميع بوُصوله نازفًا من صدره ومعدته، فهرع إِليه صاحب النزْل وطلب له الطبيب الدكتور غاشيه، ثم طبيب البلدة الدكتور مازيري، وأَبرق إِلى تيو، شقيق الفنان، فوصل من باريس في الساعات الأَخيرة التي انتهت بانطفاء النَفَس في صدر فنسنت مع الساعات الأُولى من ذلك النهار المشؤُوم.

ما مسيرة جانسنس لتحقيق حلم فان غوخ؟

هذا ما أُعالجه في الجزء التالي من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى