لا تحتَ خطِّ الفَقر بل تحتَ خطِّ الاحترام

هنري زغيب*

جرَت هذه الحادثة في فرنسا، أَخبَرَتْنِيها صديقةٌ تعيشُ في باريس كانت شاهدةً عليها من أَحَد المعنيَّيْن بها.

في مدرسة ثانوية باريسية للبنات تلميذتان لبنانيتان متفوِّقتان منذ صفوفها الابتدائية، صدَفَ أَنَّ فيها هذا العام مُدرِّسًا لبنانيًّا رفع إِلى المديرة علاماتِ تلميذاته قبل أُسبوع، فلاحظَت أَنَّ تينَك التلميذتَين نالتا معًا علاماتٍ عاليةً عن سائر التلميذات. استدعَت الـمُدَرِّسَ واستفْسَرَتْ منه عن العلامات فأَجابها أَنَّ التلميذتَين استحقَّتاها بعدْلٍ من دون أَيِّ انحياز.

وما لفَظ الـمُدرِّس كلمة “انحياز” حتى انهالَت المديرة بأَقذع الصِفات على الـمُدرِّس وامتدادًا إِلى الشعب اللبناني ناعتةً إِياه بــ”شعب مشاغب لم يعرف كيف يحافظ على بلاده فتشرَّدَ وتهجَّرَ إِلى بلدان العالَم”. خرجَ الـمُدَرِّس من مكتبها غاضبًا غيرَ مناقِش، حتى إِذا أَخبرَ بالأَمر والدَ إِحدى التلميذَتَيْن، أَسرع الوالدُ إِلى المدرسة مقابلًا المديرةَ متهمًا إِياها بالعنصرية، مهدِّدًا برفع دعوى قضائية ضدَّها بتهمة التمييز العنصري في المدرسة. وإِذ انهارت المديرة خوفًا من عواقبِ هذه الدعوى واعتذرَتْ بأَسفٍ وخوف، خرج الوالد من مكتبها حاملًا لهجةَ التهديد.

لا يَهُمُّ بعدها ماذا حصل وكيف جرت الأُمور. ما يَهُمُّ هنا كيف استحال صيتُ اللبنانيين في الخارج بعدما حوَّلَ السياسيون مصيرَهم موزَّعين في العالَم: هَجُّوا من الوضع في لبنان، والمستقبل المجهول في لبنان، والسياسيين المنشغلين عن شعبهم، منصرفين إِلى غاياتهم الشخصية والمآرب الشخصانية والحزازات المحلية، غيرَ مهتمِّين بما يعاني الشعب بسببِهم من أَضرار قاتلة محليًّا أَو في العالم، كأَنَّ الشعبَ ماشيةٌ في زرائبهم، أَو قطيعٌ في مزارعهم، يقْبَل بما يَفرضونه عليه، ويظلُّ تابعًا لهم، مُصَدِّقًا إِياهم كيفما قالوا وفعلوا.

هكذا أَفسدَ السياسيون صورةَ اللبنانيين في الخارج. وبعدما كان اللبنانيُّ ساطعَ الحضور أَنَّى تَوَجَّه في العالم، معتزًّا بلبنانيته، فخورًا ببلاده وانتمائه إِليها، ها هو يَدفعُ اليومَ ضريبةَ سياسييه الهوجاءَ الأَنانية، وخصوصًا منه الجيلُ الجديد من اللبنانيين الذين فقدوا الإِيمان بوطنهم والثقةَ بسياسيي دولتهم، فحمَلوا حقائبَهم وطارُوا مشتَّتِين في بلدان العالم التي تحترم المواطن أَنَّى كان وتحترم الإِنسان مهما كان.

طبعًا تلك المديرةُ الحمقاء لا تمثِّل الشعب الفرنسي، لكنَّ أَفواج المهاجرين الجديدةَ من الجيل الجديد في لبنان، توزَّعوا في العالَم حاملين معهم صيتَ سياسيِّين فاشلين، أَخبارُهُم تَملأُ إِعلام الدُوَل حتى بدأَ حُكَّام تلك الدوَل يُشيحون عنهم يأْسًا من نُصحهم بلا جدوى: فلا الإِصلاحاتُ المطلوبةُ حقَّقوها، ولا السياساتُ المالية والاقتصادية اعتمَدُوها، ولا رئيسًا توصلوا إِلى انتخابه، متلهِّين بدومينو الأَسماء وموزاييك المواصفات واختيار مَن يخضع لمرشِّحيه وداعميه أَكثر، كي يتحكَّموا به إِذا وصل، مكْتفين بأَنه ينتمي إِلى هذا المحور أَو ذاك، وليس ضروريًّا لهم أَن يكون لديه برنامجٌ واضحٌ مفصَّلٌ يتَّبِعُه إِذا وصل إِلى الحُكم.

وما دام المعيارُ هو الشخص بانتمائه الانحيازي لا ببرنامجه الإِنقاذي، فسيبقى أَبناؤُنا يَهُجُّون إِلى بلدان العالم، يائسين من حكَّامٍ هنا يتناسلون فسادًا ومحسوبيات، وسيَبقى صيتُ اللبنانيين في العالم مطبوعًا بصورةٍ مشوَّهةٍ لوطنٍ بناهُ أَعلامُهُ شرَفًا وسطوعًا وعبقرياتٍ فوصَل إِلى الحُكْم فيه أَنانيون فرديون فاسدون مَزْرَعُوهُ على قياسهم، فغاب عن العالَم وهجُ لبنان الـمُشَرِّف، ولم يَبْقَ في دوائر القرار العالمية سوى حفنةِ سياسيين مشوَّهين مشوِّهين جعلُوا لبنان لا تحتَ خَط الفَقْر بل… تحت خط الاحترام في دُوَل العالم.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى