عندما يُصبحُ “أمراءُ الحرب” في أفريقيا روّادَ أعمالٍ مُعَولَمين

كابي طبراني*

في غالبية أفلام هوليوود التي تَستَخدِمُ الحروبَ الأهلية في أفريقيا كأداةِ مؤامرة، يُصَوَّرُ قادةُ الجماعات المُسلحة عادةً على أنهم طُغاةٌ غير مُنَظمّين يتمتّعون بفَهمٍ قليل للعالم الأوسع. حتى أن مثل هذه الافتراضات تتخلّل التغطية الإخبارية عن الميليشيات دون الوطنية والقوات القبلية والفصائل السياسية المسلحة، مُقابِلةً هياكلها التي يُفتَرَضُ أنها بدائية بهياكل جيوش الدولة. ولكن، مع تصاعد الاشتباكات في السودان بين قوات “الدعم السريع” شبه العسكرية والجيش النظامي إلى حربٍ أهلية شاملة، أصبح مدى التقليل من التطور الجيوسياسي لأمراء الحرب هؤلاء وجهل أهمّيتهم واضحًا بشكلٍ متزايد.

على النقيض من الرواية الفجّة التي غالبًا ما تنشرها وتبثّها وسائل الإعلام الغربية، فإن الجماعات المسلحة مثل قوات “الدعم السريع” في السودان، و”الجيش الوطني الليبي” في الجماهيرية السابقة والميليشيات التي أصبحت أعمدةً لنظام إدريس ديبي في تشاد، جمعت بين التجاهل الشرس والقمع للمدنيين مع فَهمٍ بارعٍ لكيفية التلاعب بتنافس القوى العظمى والأنظمة الاقتصادية الإقليمية لمصلحتها الخاصة. كبارُ القادة الذين يُسيطرون على هذه الجماعات المسلحة –مثل محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات “الدعم السريع” في السودان وعائلة ديبي في تشاد– هم في الواقع مديرون فعّالون جدًا لمنظماتٍ ومؤسّساتٍ كبيرة تسيطرُ على إمبراطورياتِ أعمالٍ قريبة وبعيدة وشبكاتٍ من المحسوبية. حتى أن أمراء الحرب الأقل مهارة مثل اللواء خليفة حفتر في ليبيا تمكّن من الحصول على المساعدة من أشخاصٍ لديهم الخبرة اللازمة في الشؤون العسكرية والمصرفية والعمليات الاستخباراتية وغيرها من المجالات لمساعدته على الحصول على قوّة مسلحة كبيرة مُجَهَّزة بشكلٍ جيد وتدريبها وتمويلها.

إن مدى توسّع قوة ونفوذ مثل هذه الأشكال المُعَقَّدة مؤسّسيًا من “أمراء الحرب” محلّيًا وعلى النطاق الإقليمي بدا جليًا أصلًا في الحروب الأهلية التي مزّقت تشاد في السبعينيات والثمانينيات الفائتة. بدأت التشكيلات المسلّحة المختلفة كميليشياتٍ متمرّدة على حكومةٍ مركزية في صراعٍ استقطب ليبيا، التي سعت في عهد الزعيم آنذاك معمر القذافي إلى ضمِّ أراضٍ في شمال تشاد، وفرنسا، باعتبارها القوة الاستعمارية السابقة تدخّلت لردع ورَدّ الليبيين. بمرور الوقت، مكّنت فعالية هذه الميليشيات غير النظامية في تشاد قادةً مثل حسين حبري وإدريس ديبي من الاستيلاء على السلطة الرئاسية وإضفاء الشرعية على منصبهما كرئيسَي دولة مُعتَرف بهما دوليًا.

في حروبها ضد النظام المدعوم من فرنسا أوّلًا، ثم بالتحالف مع فرنسا ضد القوات الليبية الغازية، طوّرت هذه الميليشيات غير النظامية وَلَعًا وشغفًا للخلق والابتكار التكتيكي الذي جعلها القوة العسكرية الأكثر تحويلًا في تطور الحرب منذ العام 1945. النشر الماهر لـلمُشاة الخفيفة في شاحنات تويوتا ال”بيك أب”، غالبًا مع مدافع رشاشة ثقيلة وصواريخ مُوَجَّهة مضادة للدبابات مُثبَتة على ظهر الشاحنة، طغى على الألوية المُدرّعة الليبية ومكّن الدولة والجيش التشادي من عرض القوة على مساحات شاسعة. بحلول الوقت الذي أطاح فيه إدريس ديبي حسين حبري في ما يسمى بآخر حروب ال”تويوتا” في تشاد في العام 1990 ليصبح هو الرئيس، لم يكن هذا الشكل من حرب الشاحنات الصغيرة للتغلب على الألوية المدرعة المُرهقة يتم محاكاتها والأخذ بها في جميع أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط فحسب، بل كان كذلك يؤثر أيضًا في كيفية تعامل جيوش القوى العظمى مع القتال في ظروف مماثلة.

عبر منطقة الساحل ووسط أفريقيا، عزّز النموذج الذي وضعته حروب تشاد شكلًا من أشكال أمراء الحرب الذي يخلط بين التجاهل الوحشي والقمع لرفاهية المدنيين مع مستوى عالٍ من الكفاءة الإدارية في الأعمال والشؤون العسكرية. في السودان، على سبيل المثال، اكتسب حميدتي في البداية نفوذًا بقيادة ميليشيات الجنجويد الشرسة التي جنّدها الجيش السوداني في حروبه ضد المتمردين في جنوب السودان ودارفور في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ثم استغل هذا النفوذ لتأمين السيطرة على مناجم الذهب وتجارة الماشية وطُرُق التهريب. إن مهارات حميدتي الخاصة كمدير لشبكة رعاية مُوَسَّعة تجمع بين الأعمال والموارد العسكرية والسياسية مكّنته من هزيمة المتمرّدين الدارفوريين والتغلّب على قادة الجنجويد المُنافسين وكذلك إزالة الأعداء داخل الجيش في الخرطوم. واستمر ليصبح إحدى الشخصيات المهيمنة في السياسة السودانية في السنوات التي سبقت الاحتجاجات الجماهيرية التي أطاحت النظام الاستبدادي للرئيس السابق عمر البشير في العام 2019.

في أعقاب هذه الاضطرابات الإقليمية، اعتمد حميدتي وحفتر وأمراء الحرب الآخرون الذين يسيرون على المنوال عينه على المساعدة من القوى الخارجية. والصفقات مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر وفرنسا وروسيا ومصر وتركيا وغيرها … تعني أن هؤلاء “الأمراء” بحاجة إلى مراعاة مصالح الشركاء الخارجيين الذين يقدمون الأسلحة والمال. ومع ذلك، فإن سيطرتهم على الموارد الطبيعية والبنية التحتية الصناعية توفّر لهم عائدات كافية خاصة بهم لإيجاد مجالٍ للمناورة. إن الاتجاه الواسع الانتشار إلى تصنيف أمراء الحرب المعاصرين هؤلاء على أنهم مجرّد وكلاءٍ لقوى خارجية يُقلّل باستمرار من تقدير مدى كون هؤلاء القادة، مثل حميدتي، فاعلين اقتصاديين وسياسيين هائلين لديهم القدرة على تشكيل النظام الإقليمي.

تم تمكين التطور المؤسسي أيضًا لهذه الأشكال من أمراء الحرب من خلال النظرة المُتَغيِّرة ودهاء الأفراد العسكريين والمدنيين الذين يخدمون مصالح القادة مثل حميدتي. في الثمانينيات الفائتة، ظلت الآفاق التجارية لوحدات الميليشيات التي من خلالها صعد ديبي وحميدتي إلى القمة مقصورة على التجارة والاتجار غير المشروعَين. في المقابل، يعتمد خلفاؤهم اليوم بشكلٍ كبير على الوصول إلى المراكز المصرفية العالمية مثل أبو ظبي ودبي لاستثمار الأرباح التي يولّدونها من خلال مصالحهم التجارية واستخدام العائدات لتمويل المشاريع العسكرية والسياسية الجارية. في حربه الحالية ضد الجيش السوداني، يتوقف بقاء حميدتي على قدرة مستشاريه الماليين على نقل وتحويل الأموال، التي يحتاجها للبقاء على قيد الحياة، حول النظام المصرفي العالمي كما على استعداد قواته في الميدان للصمود في الخرطوم.

كما أن اتساعَ نطاق وصول أمراء الحرب هؤلاء إلى الاقتصاد العالمي يؤثّر أيضًا في تطلعات الجنود والقادة ذوي الرتب الدنيا الذين يخدمونهم. بعد أن شاهدنا عن كثب هياكل السلطة التي تنطوي على السيطرة على البنية التحتية الصناعية وتصدير الموارد مثل الذهب، من غير المرجح أن يرضى العديد من المقاتلين عبر منطقة الساحل ووسط أفريقيا بالعودة إلى المجتمعات الزراعية بعد انتهاء القتال. كأعضاءٍ في مجتمعٍ مُتّصلٍ عالميًا يتمتّع بإمكانيةِ الوصول إلى المعلومات بلمسة من الهاتف الذكي، سيجد هؤلاء المقاتلون شبكة المحسوبية المُربحة لأمراء الحرب أكثر إقناعًا من أيِّ شيءٍ يمكن أن يقدّمه برنامج التسريح وإعادة الإدماج الذي ترعاه الأمم المتحدة.

إن المدى الذي طوّر به أمراء الحرب، مثل حميدتي، أنظمةً مُعقّدةً لتوليد الدَخل يتحدّى أيضًا الافتراضات حول التنمية التي شكّلت تاريخيًا كيفية تفاعل منظمات المعونة الدولية والقوى الخارجية مع المجتمعات في منطقة الساحل وأفريقيا الوسطى. منذ إنهاء الاستعمار في الخمسينيات من القرن الماضي، اعتمدت استراتيجيات التنمية التي وضعتها الأمم المتحدة والصين والدول الغربية في مجتمعات عبر أفريقيا والشرق الأوسط على الاعتقاد بأن التحديث التكنولوجي والازدهار من شأنه، بمرور الوقت، أن يُقلّلَ من رغبة النُخَب الإقليمية باستخدام النزاع المسلح لحلّ النزاعات. ومع ذلك، فحتى نظرة خاطفة على التاريخ الحديث تُشير إلى أنه طالما بقيت خطوط الصدع الاجتماعي من دون حلّ، فمن غير المرجح أن تمنع التنمية الاقتصادية الأكبر الصراع المسلح بين الدول المتنافسة والقواعد المحلية، سواء في أوروبا أو في أفريقيا.

على العكس من ذلك، في المجتمعات التي لا تستطيع أنظمتها السياسية إدارة مثل هذه الخصومات، يمكن للتحديث الاقتصادي أن يزيد بشكلٍ كبير الحجم والسيطرة والقوة النارية المتاحة لأمراء الحرب. في أوائل السبعينيات الفائتة، كانت الجيوش والميليشيات في السودان وتشاد تتألف على الأكثر من بضعة آلاف من الرجال الذين اضطروا للاكتفاء ببنادق الاشتباك وحفنة من القذائف الصاروخية. في العام 2023، يمكن لخلفائهم في قوات “الدعم السريع” والجيش السوداني إدارة واستخدام إمبراطوريات تجارية واسعة مع مصانع ذخيرة خاصة بهم، ووضع عشرات الآلاف من المقاتلين في الميدان مع إمكانية الوصول إلى المدفعية والصواريخ الموجهة المضادة للمدرعات والطائرات المقاتلة والدبابات. من الواضح أن التنمية الاقتصادية يمكن أن تزيد بشكلٍ كبير من نطاق الحرب بقدر ما يمكن أن تصبح ركيزةً لحلِّ النزاع بنجاح.

كان الافتراضُ السائدُ في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي بأنَّ قادةَ الميليشيات والحكّامَ المُستَبدّين في منطقة الساحل ووسط أفريقيا هم مجرّد “بلطجية” جاهلين يُمثّلُ دائمًا إشكالية عميقة، وغالبًا ما يُعتَبرُ قراءةً عنصرية مُسيئة للأنظمة الاجتماعية المُعقّدة. واليوم، فإن مثل هذا التقليل من شأن أمراء الحرب الجدد سيُعيق الجهود المبذولة لإنهاء الصراع في السودان وغيره. طالما أن أمراءَ الحرب يفهمون تأثير العولمة بشكلٍ أفضل مما تفهمُ القوى العظمى أمراءَ الحرب، فإن روادَ الأعمال الشرسين ولكن الماهرين في أعمال العنف سيستمرون في الازدهار.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى