… ولن أَحضَرَها جنازتَك!

هنري زغيب*

طبعًا لَن، يا سجعان.. طبعًا لَن..

وهل أَنا حقًّا قَويُّ الاحتمال أَن أَرى تابوتَكَ يتهادى على أَكُفِّ الشباب مُشَيِّعيك؟ وهل أَنا شُجاعٌ فعلًا لأَتخيَّلَكَ في النعش مُسَجًّى بلا روح، وأَنتَ كنتَ عريسَ الروح في مرآة الحياة؟ وهل أَنا متماسكٌ كفايةً لأَقفَ في مأْتمكَ بين سائر مودِّعيك، ولا فرقَ لحظتَها بين بُكاءِ الدمع الحافي ونُواحِ الدمع المُنهمل؟

طبعًا لَن، يا سجعان.. طبعًا لَن.. قُلْتُها للصابرة “دانية” رفيقةِ العمرِ وسريرِ المستشفى، وأَقولُها لكَ الآن.. ففي السائد أَنَّ لحظات اللقاء الأَخير هي التي تبقى في ذاكرة العينَين، وأَنا لا أَريد أَن أَخسرَ تلك اللحظات الْكَانت تجمَعُنا في جلساتنا الهادئة عند شرفتكَ الـمُعْنِقَة على خليج جونيه، وأَنتَ فيها كاملُ الأَناقة روحًا وقلبًا ومَلْبَسًا في هَيبة الأُمراء.. ولا أُريد أَن أَفقدَ من عينيَّ كلَّ لقاء بيننا وما يَليه من ذِكَر.

سنواتٌ طويلة جَمَعَتْنا على حُب الحياة: منذ تزامُلِنَا دراسةً في معهد الرسُل، ومنذ تَخاصُرِنا مهَنيًّا في “إِذاعة لبنان الحر” التي أَسَّسْتَها من إِيمانك بالمقاومة اللبنانية حتى إِذا استشهد البشير غادَرْتَها وغادَرْتُها تاركَين فيها كلماتِنا المقاوِمةَ تتردَّد في الأَثير حاملةً إِلى المدى تكريسَ أَقلامنا وأَفكارنا في خدمة لبنان اللبناني.

في وَداعكَ اليومَ سيكثُر الـمُعَزُّون، كتابةً أَو شفاهَةً، ولن أَكون بينهم، بل سأَبقى منزويًا في وحدتي إِليك، كما وحيدًا تجالدْتَ على الأَلم لا يقاسمُك إِياه أَحد. فبَين أَقسى ما في الحياة أَن يُشاركَنا الآخَرون أَفراحنا نتقاسمُها معهم، حتى إِذا وجِعَ منا الجسد لا يُشاركُنا في توجُّعاته حتى الأَقربُ إِلينا، فننْكسر على الوجَع ونغادِر وحدَنا مهما نَكُن محاطين بالسوى.

في وَداعكَ اليومَ تتقاطرُ في رثائكَ الكلماتُ الأَسيفة، يكتُبُها أَو يقولُها أَحبَّةٌ ثم يَمضون، وأَبقى معكَ دون رثاءٍ ولا تعزية، لأَن عزائي في صداقتنا التي، ولو انكسَر منها جناح، سيبقى جناحُها الباقي يرفُّ بالوفاء وأَنت أَميرُ وفاء.. جاء وقتٌ رأَى فيكَ آخرون متعاليًا فأَخطأُوا في النظرة بين التكبُّر (وهو شخصيٌّ مقصود) والكِبَر (وهو طبيعيٌّ مولود).. وسيُقال دومًا إِنك “الوزير السابق سجعان قزي” و”الحزبي السابق” و”المدير السابق”، وستَبقى في خلجاتي الملتزمَ الدائم.. فالالتزام عنوانُكَ، وشهامةُ الخصومة مسلَكُكَ، والعنفوانُ اللبناني نهجُكَ لا تخشى مواجهةً ولا يلويكَ ترويض.. وكتاباتُكَ – في كُتُبكَ التاريخية والسياسية وفي مقالاتكَ – ستبقى هديًا لكلِّ باحثٍ عن الأَصالة المواطنية.. فافتتاحياتُكَ في خميس “النهار” (كانت تصدرُ توازيًا في “أسواق العرب” في لندن) كم كانت حديثَ النهار والأَوساط السياسية، وأَنتَ تتأَنَّى فيها بكل كلمة، بكل فلْذة، وتتأَنَّقُ حتى في اختيار العنوان الجاذب، فإِذا انتهى من قراءَتها مُتَنَوِّرٌ غيرُ محدودِ النظرة والفكْر، وجدَكَ فيها قاسيًا بدون أَذًى، موجِعًا ولا جُرح، صارخًا باسم الحقيقة اللبنانية التي نذَرْتَ لها حياتَكَ سيرةً ومسيرة.. وإِخال البطريرك الراعي، وهو واقفٌ إِلى سريرك يمشحُكَ بميرون النزْع الأَخير، كان بين كلماته صدًى كلماتِكَ التي – مرفوعةً إِلى لبنان اللبناني – لم تكُن أَقلَّ من صلاةِ مؤْمِنٍ بلبنان اللبناني حتى الاستشهاد.

قاهرٌ هو انطفاؤُكَ يا سجعان.. وما أَقسى خَبْوَ النور حين تَهوي من عليائها المنارة.. فما نفْعُ العُلُوِّ ولا شعاعَ في رأْس العُلُوّ!

اثنان أَخْرَسا دمعي في انطفائهما: أَنت والياس الرحباني الذي، هو أَيضًا، ما كنتُ لأَحتملَ السير في وداعه.

صعبٌ، يا سجعان، غيابُ الأَصدقاء من طينتِكَ، أَنت الـمُحِبُّ حتى السخاء والفيض، دماثةً وصدقًا ومطايَبَات.

طبعًا لَن، يا سجعان.. طبعًا لَن أَحضَرَها جنازتَك.. فلن أَتماسَكَ وأَنا يتساقط عليَّ العويلُ الفاجع وَوُجُومُ “دانية” حبيبتِك وزنبقَتَيْك التوأَمَين “أُوْد” و”جُوي” – وكم كان عاليًا وهْجُ اعتزازِكَ بهما ناجِحَتَين تُشَرِّفانِكَ -، ولن تُعفيني من وهْن التَمَاسُك دموعُ شقيقتِكَ إِليسار وشقيقَيْكَ جورج وجان.

طبعًا لن، يا سجعان.. ولن أُبقي في عينيَّ مشهدَ تابوتكَ يراقصه شبَّانٌ طيِّبون يَحملونَكَ إِلى الـمُسَجَّى الأَخير.

فاغفِر لي هذه الـ”لن”، ولكُنتَ أَنتَ تقولُها عني لو انني كنتُ سبقْتُك إِلى ذاك الـمُسَجَّى الأَخير.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى