عمليةُ إعادةِ دَمجِ العراق إقليميًّا لم تَكتَمِل بَعد

إنَّ تعزيزَ فعالية السياسة الخارجية للعراق ومكانته الإقليمية مُرتبطٌ بشكلٍ جوهريٍّ بسياساته الداخلية. بدلًا من التركيز فقط على السياسة الخارجية وتهميش تحديات الشؤون الداخلية، يجب على أيِّ رئيس وزراء عراقي يطمح إلى أن يصبح وسيطًا إقليميًا أن يسعى إلى تحقيق الاستقرار في الداخل أيضًا.

محمد شياع السوداني: عليه تحقيق الإستقرار في الداخل لينجح في دمج العراق إقليميًّا.

ريناد منصور*

في أوائل آذار (مارس)، أعلنت إيران والمملكة العربية السعودية أنهما توصلتا إلى اتفاقٍ لإعادة العلاقات الديبلوماسية وإعادة فتح سفارتيهما. ولدهشة العديد من المراقبين، فقد تمَّ التوصل إلى اتفاقهما بوساطة من الصين، التي زادت في السنوات الأخيرة انخراطها السياسي مع حكومات الشرق الأوسط.

ولكن على الرُغم من عدم حضورهم فعليًا في حفل التوقيع في بكين، فقد احتفل العديد من المسؤولين العراقيين الحاليين والسابقين باستكمال العملية التي لعبت بغداد دورًا مهمًا في دفعها عبر خط النهاية. وردًا على نبأ الاتفاق، كتب علي المعموري، مستشار رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، أنه على الرُغمِ من التوصّل إلى اتفاقٍ بين السعودية والجمهورية الإسلامية وتوقيعه في بكين، فإن “المفاوضات بين البلدين قد بدأت من العراق”.

في محاولةٍ لتخفيف التوتّرات بين طهران والرياض، سعى العراق -الذي له حدود مشتركة مع كلا البلدين- للوساطة بين الجانبين ابتداءً من العام 2019، عندما كان مصطفى الكاظمي رئيسًا للمخابرات العراقية. وبعد أن أصبح رئيسًا للوزراء في العام التالي، بدأ العراق استضافة اجتماعات وجهًا لوجه بين مسؤولين سعوديين وإيرانيين في بغداد، وبلغت ذروتها في قمة بغداد متعددة الأطراف في العام 2021.

تَعكُسُ المبادرة الديبلوماسية للتوسّط بين السعودية وإيران جهود العراق الأوسع نطاقًا لإعادة تأكيد نفسه كلاعبٍ في جواره. لسنواتٍ عدة امتدت لإدارات متعددة، كانت إعادة الدمج الإقليمي بين العراق وجيرانه أولوية رئيسة لبغداد، لأسبابٍ ليست أقلها العواقب التي خلّفتها العداوات الإقليمية في كثير من الأحيان داخل العراق.

على سبيل المثال، بلغت التوتّرات بين الولايات المتحدة وإيران ذروتها في العام 2020 باغتيال الجنرال قاسم سليماني -قائد فيلق القدس الإيراني آنذاك- قرب مطار بغداد، ردًّا على الهجمات التي شنّتها الجماعات العراقية المسلحة المُتحالفة مع إيران على أهداف أميركية في العراق. كما أدّى تصاعد العنف بين جيران العراق إلى إعاقة قدرة بغداد على فرض الأمن والاستقرار في جميع أنحاء البلاد بعد عقود من الصراع. إلى جانب هذه الرغبة في منع العراق من أن يكون ساحة معركة للمنافسة الجيوسياسية، ينظر قادة الحكومة في بغداد إلى التكامل الإقليمي كوسيلةٍ لتنويع شراكات العراق الاقتصادية بعيدًا من اعتماده على إيران.

لاقت الخطوات التي اتخذها العراق لكسب المصداقية كوسيطٍ إقليمي وبطلٌ للتكامل بعض النجاح، بدءًا بجهوده الخاصة لإصلاح العلاقات السيئة مع السعودية. وكانت العلاقات بين بغداد والرياض انقطعت لسنوات عديدة بسبب مخاوف المملكة من أن عراق ما بعد صدام أصبح دولة يهيمن عليها الشيعة وتحت النفوذ الإيراني. في العام 2017، سافر رئيس الوزراء العراقي آنذاك حيدر العبادي، الذي جاء من حزب الدعوة الإسلامي الشيعي، إلى الرياض للقاء العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، ما أشار إلى رغبةٍ مشتركة بين البلدين لنزع فتيل التوترات في علاقتهما. في العام نفسه، قام رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر ووزير الداخلية العراقي آنذاك قاسم الأعرجي برحلاتٍ خاصة بهما إلى الرياض في محاولةٍ لإصلاح العلاقات. كانت زيارة الأعرجي جديرة بالملاحظة بسبب العلاقة الطويلة بين منظمة “بدر” وطهران.

كان الغرض من هذا التواصل هو إقناع جيران العراق في الخليج بأن بغداد يمكن أن تُطَوِّرَ سياسةً خارجية مستقلة لا تخضع لإيران. بعبارةٍ أخرى، لن تنحاز الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة في بغداد تلقائيًا إلى جانب طهران. كما عبّر الشيعة العراقيون صراحةً عن معارضتهم لأن يصبحوا وكيلًا لإيران خلال حركات الاحتجاج الشعبية التي اندلعت في العامين 2015 و 2016 في بغداد وجنوب العراق، حيث هتف المتظاهرون العراقيون “إيران، أُخرُجي، أُخرُجي!” في مظاهراتٍ عامة وأضرموا النار في القنصليات الإيرانية في جميع أنحاء العراق. وقد أدّت الشعارات التي يوجهها الشيعة العراقيون ضد جارتهم ذات الغالبية الشيعية إلى تعقيد الرواية البسيطة لـ “الهلال الشيعي” لدول المنطقة التي تدعم إيران في النزاعات الإقليمية.

والذي أضاف الزخم إلى هذا الجهد هو حقيقة أن النخب السياسية في العراق يبدو أنها تدرك الفوائد الكبيرة التي يمكن أن يوفرها التكامل الإقليمي. حتى أقوى حلفاء إيران في العراق -بمن فيهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وزعماء الجماعات الشيعية شبه العسكرية التي تُشكّل “قوات الحشد الشعبي”- ضغطوا من أجل مزيد من التكامل الإقليمي لتعميق علاقات بغداد مع جيرانها الآخرين إلى جانب طهران، كما يتّضح من زيارة الأعرجي للرياض.

إقتصاديًا، تستفيد النُخب العراقية من وصول البلاد إلى الأسواق المالية وقدرتها على ممارسة التجارة بالدولار الأميركي، وكلاهما محظور على إيران نتيجة العقوبات الأميركية على برنامج طهران النووي. علاوةً، يمنح هذا الوصول المميز العراق نفوذًا حاسمًا في المفاوضات مع جارته الأكثر قوة. وعلى المنوال عينه، فإن التحوّلَ إلى وكيلٍ إيراني من شأنه أن يُخاطِرَ بتحويل البلد إلى دولة منبوذة، ما قد يعرض هذه الفوائد للخطر.

من الناحية السياسية، تتكوَّن القواعد الاجتماعية للدعم التي تخضع للمُساءلة عنها النُخب العراقية من القوميين الذين يُعارضون على نطاقٍ واسع التدخّل الإيراني المُتَصَوَّر في الشؤون الداخلية للبلاد. إنهم يضغطون بشكل متزايد على قادتهم السياسيين لدفع أجندات مستقلة تتعارض مع “الحكمة” التقليدية لبغداد كوكيلٍ إيراني.

عند وصوله إلى السلطة في العام 2020، سعى الكاظمي إلى مواصلة هذا المسار. وفي مناسباتٍ عديدة، صرّحَ علنًا أن العراق لا يمكن أن يصبح مستقرًا إلّا إذا توقّفَ عن الاعتماد على شريكٍ واحد –ومن المفهوم على نطاق واسع أنه يشيرُ إلى إيران– وسعى بدلاً من ذلك إلى تطوير نظرةٍ إقليمية أكثر. وكان الدور الذي لعبته إدارة الكاظمي في التوسط في المحادثات بين إيران وجيرانها الخليجيين دليلًا على التزامه بهذا الهدف.

تعودُ جذورُ المبادرة إلى الرسائل السرية بين طهران والرياض التي أرسلتها أجهزة المخابرات العراقية عندما كان يرأسها الكاظمي، الذي استفاد من العلاقات الناتجة للتوسّط في سلسلةٍ من الاجتماعات السرية بين المسؤولين السعوديين والإيرانيين. أدت هذه الحوارات إلى قمة بغداد في العام 2021، عندما انضم وزيرا خارجية إيران والسعودية إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وشخصيات أخرى لمناقشة كيفية تحسين العلاقات وتهدئة التوترات والصراعات الإقليمية.

ومع ذلك، في حين أن الخطوات التي اتخذتها بغداد للتوسّط في الحوار في الشرق الأوسط جديرةٌ بالثناء، فإن مصداقية العراق كوسيطٍ إقليمي ما زالت تتعرّض للتقويض بسبب سياساته الداخلية غير المستقرة. استغرقت الأحزاب الحاكمة في العراق عامًا كاملًا لتشكيل حكومة بعد الانتخابات البرلمانية في تشرين الأول (أكتوبر) 2021. خلال تلك الفترة، اندلع العنف في مناسباتٍ مُتعدّدة، تتراوح من محاولة اغتيال حياة الكاظمي وهجمات صاروخية على مواقع متعددة في أربيل، إلى غزو المنطقة الخضراء في بغداد من قبل أنصار مقتدى الصدر.

نتيجةً لذلك، كرئيس وزراء بالوكالة في أعقاب تلك الانتخابات، كافح الكاظمي للحفاظ على الزخم اللازم لتعزيز مكانة العراق كوسيطٍ إقليمي موثوق. وبسبب الخوف من تصاعد العنف والفوضى السياسية في بغداد خلال فترة ما بعد الانتخابات، راقبَ شركاء العراق الإقليميون بقلق من بعيد وقرروا وقف الحوارات. وحاول الكاظمي طمأنتهم، بما في ذلك زيارة كلٍّ من جدة وطهران في حزيران (يونيو) 2022 لإحياء المحادثات بين إيران والسعودية والتحضير لاجتماعٍ ثنائي آخر. لكن هذا الاجتماع لم يحدث قط، وبعد بضعة أشهر، تم استبدال الكاظمي كرئيس للوزراء بمحمد شياع السوداني.

كان السوداني مرشحًا لـ”إطار التنسيق الشيعي”، وهو مجموعة من الأحزاب الإسلامية الشيعية يهيمن عليها قادة مثل المالكي و”قوات الحشد الشعبي”. لكن بعد توليه منصبه، وعد السوداني بمواصلة جهود الوساطة الإقليمية للعراق، وحافظ كرئيسٍ للوزراء على هدف التكامل الإقليمي باعتباره حجر الزاوية في سياسة العراق الخارجية.

في هذا السياق، أعرب السوداني عن أمله في استضافة قمة بغداد الثانية. وعندما انعقد التجمّع بدلًا من ذلك في عمّان، الأردن، اعتبره الكثيرون انعكاسًا لكيفية استمرار عدم الاستقرار السياسي الذي يقوِّض تطلعات العراق إلى أن يصبح وسيطًا إقليميًا قويًا. نتيجة لذلك، انتهى الأمر بالصين إلى التوسّط في ذوبان الجليد الديبلوماسي بين إيران والسعودية الذي نشأ عن المناقشات الأولية التي توسّط فيها العراق.

الدرس المستفاد لبغداد هو أن تعزيز فعالية السياسة الخارجية للعراق ومكانته الإقليمية مرتبط بشكل جوهري بسياساته الداخلية. بدلًا من التركيز فقط على السياسة الخارجية وتهميش تحديات الشؤون الداخلية، يجب على أي رئيس وزراء عراقي يطمح إلى أن يصبح وسيطًا إقليميًا أن يسعى إلى تحقيق الاستقرار في الداخل أيضًا.

  • ريناد منصور هو زميل أبحاث أول ومدير مشروع مبادرة العراق مع برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز الأبحاث “تشاتام هاوس”. يمكن متابعته عبر تويتر على: @renadmansour

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى