شخصيات شكسبير من المسرح إِلى اللوحة (1 من 2)

فوزيلي: “الليدي ماكبث تخطف الخناجر”

هنري زغيب*

في عادة الآثار الأَدبية الخالدة في التاريخ، أَن تنتقل شخصياتُها وأَحداثُها من الكتاب إِلى دُرَبٍ إِبداعية أُخرى تخلِّدها لجمهورٍ آخر غير القرَّاء، فتتحوَّل مرةً مسرحيةً، ومرةً أُوبرا، ومرةً فيلمًا سينمائيًّا، ومرةً باليه، وقد تُلهم رسامين خلَّاقين فتُصبح تلك الشخصيات أَو تلك الأَحداث لوحاتٍ خالدة في المتاحف العالمية، ما يعطي الشخصية بُعدًا آخَر لا يعطيها إِياه ذكْرُها في الكتاب.

ومن الرائج أَن شكسبير، بِغِنى الخيال في نصوصه وحوارته وشخصياته، هو بين أَكثر المؤَلِّفين إِشغالًا دُرَبًا عدَّة. فكثيرًا ما تحوَّلَت مسرحياته إِلى أَعمال فنية من كل نوع، نقتصر منها هنا على الفن التشكيلي، فنرى كيف تحوَّلَت شخصياتٌ من مسرحه إلى لوحات خالدة.

جون سنغر سرجنت: “الليدي ماكبث”
  1. الليدي ماكبث

تعالج هذه المأْساة تردُّداتٍ خطيرة تسبِّبها الطموحات السياسية. كتبها شكسبير إِبان حكْم جيمس الأَول، ممحورًا إياها حول ماكبث وزوجته الليدي ماكبث التي تخطف الخناجر.

ولأَن الرسام السويسري الرومنطيقي هنري فوزيلي Fuseli  (1741-1835) كان يرسم مواضيع خارقة الطبيعة، منها لوحته الشهيرة “الكابوس” (1781)، دخل إِلى فضاء شكسبير خلال سنوات إِقامته في سويسرا وترجمته مسرحية “ماكبث” إِلى الأَلمانية. ويرى النقاد ومؤَرخو الفن أَن لوحته “الليدي ماكبث تخطف الخناجر” (1812) مخطط أَول للوحةٍ لاحقة أَكبر. فهذا الرسام الرومنطيقي كان يميل إِلى التقاط هنيهات التوتر، كما في هذه اللوحة التي استوحاها من المشهد الثاني في الفصل الثاني حين الليدي ماكبث تخطف من زوجها الخناجر المدمَّاة، وكان زوجها ماكبث مرعوبًا من فعْلته بعد قتْله ملكَ سكوتلندا في سريره، ويردِّد في هذيان شديد: “يُرعبني تفكيري في ما اقترفَت يداي”، لذا تتقدَّم زوجته وتخطف منه الخناجر. والساحرات في المسرحية يمثِّلْن الأَقدار الثلاثة، وهن لابساتٌ عباءات بيضاء كما في الميثولوجيا اليونانية، وهُنَّ يُقرِّرن مصير الناس منذ ولادتهم. أَما الحدس بمستقبل ماكبث، فهُنَّ دَفَعْنَهُ إِلى المصير الأسود: القتْل. وهو ما رسمه فوزيلي عن وصف شكسبير إِياهنّ.

أَما الرسام  الأَميركي جون سِنْغر سارجِنتْ (1856-1925) فطلب من الممثلة السيدة أَليس تيري (1847-1928) أَن تقف أَمامه (كموديل) ليرسم من وجهها وجه الليدي ماكبث (1889). وفيما الرسام يخطط الملامح الأُولى لرسمه، بدا أَنه لم يَسْتَوحِ من النص الشكسبيري، لأَن ملامح الممثلة كانت ذاتَ جاذبية ساحرة بملابسها الزرقاء والخضراء التي تتناقض مع جدائلها الحمراء وشرائطها الذهبية.

إِدوين لاندسير: “تيتانيا وبوتوم”
  1. حلم ليلة منتصف الصيف

هي كوميديا متعدِّدة المؤَامرات، تجري حوادثها في أَثينا متمحورةً حول عرس ثيسيوس وهيبوليتا، وفي مؤَامرة موازية يعمد أُوبرون ملك الجنّيات إِلى معاقبة تيتانيا ملكة الجنيات لرفضها أَن تعطيه خادمها الهندي.

وهذه لوحة أُخرى من فوزيلي “تيتانيا وبوتوم” (1790) عن المشهد الأَول من الفصل الرابع في مسرحية “حلم ليلة منتصف الصيف” وفيه كيف أُوبرون يعاقب تيتانيا لاكتشافه علاقتها ببوتوم الحرَفي البشع. والواضح أَن وقفة تيتانيا في اللوحة قريبة جدًّا من ملامح لوحة “الليدا” لليونار دافنتشي وفيها الجنيات إِلى يمين اللوحة تشبه ما رسمه ساندرو بوتيتشلِّي في النشيد الثلاثين من “الفردوس” في رائعة دانته “الكوميديا الإلهية”. والموضوع جذَب فوزيلِّي الذي كانت تستهويه المشاهد الخارقة وما تمثِّله في الرسم. من هنا أَن المرأَة الصبية، ومعها المخلوق العجيب، ترمز إِلى انتصار الصبا والجمال على الشيخوخة، أَي انتصار المشاعر على العقل، وانتصار الأُنوثة على الرجولة. ومجموعة الأَولاد الجنّيات إِلى يسار اللوحة هم أَولاد الجنّيات. وإلى اليمين مخلوق عجيب يرجح أَنه من غير أَولاد الجنّيات.

وفي الموضوع ذاته (1848) بريشة إِدوين لاندسير (1802-1873) من زاوية أُخرى (في الفصل الثالث من المسرحية) تظهر تيتانيا محاطةً بالزهر والأَرانب، وهي في وضعية حُب تتكئ على كتف بوتوم، إِلى يمينها شخص من الجنّ هو مساعد أُوبرون، أَرسله هذا الأَخير كي يتجسَّس عليها.

جون ميلاييس: “أُوفيليا”
  1. هملت

هذه المأْساة عن هملت أَمير الدانمارك هي أطول مسرحيات شكسبير. تدور أَحداثها في الدانمارك عن الأَمير هملت الذي يبحث عن الانتقام من الذي قتل أَباه وتزوَّج أُمه: وهو عمه كلاوديوس.

الرسام الإِنكليزي جون ميلاييس (1829-1896) وضع لوحته “أُوفيليا” (1851) وظل يعمل عليها نحو سنتين.  استوجب وضعَ الموديل التي رسمها نحو أَربعة أَشهر ممدَّدة في حوض مليْء بالماء. واللوحة تجسد ما ورد لدى شكسبير في المشهد السابع من الفصل الرابع، وفيه ترتمي أُوفيليا في الماء إِبان نوبة من جنونها بعدما حبيبها هملت قتل والدَها. وفي اللوحة رموز نباتية معبّرة، منها الورود المحيطة بها ترمز إِلى ما كان شقيقُها يلقِّبها بــ”وردة أَيار”، بينما حولها الأَزهار الأُخرى ترمز إِلى  الحب المنبوذ والأَلم، والزنابق التي في عُنقها ترمز إِلى الوفاء والعفاف والموت في عز الصبا.

ماذا عن مسرحيات شكسبيرية أُخرى تحوَّلت شخصياتها لوحاتٍ فنية.

هذا ما أَعرضه في الجزء الثاني من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى