نزار قبّاني: 25 عامًا وما زالَ مالئَ الدُنيا وشاغلَ الناس

عرفان نظام الدين*

عاش أبو الطيب المتنبي ومات وبقي مُتَرَبّعًا على عرش لقب “مالئ الدنيا وشاغل الناس”، وليستمر تداول شعره بحيث يكاد يكون الشاعر الخالد العربي الاول، لكن الوحيد الذي جاوره في العرش هو الشاعر نزاز قباني.
25 عامًا مرّت على وفاته (28 نيسان/ إبريل 1998) ونحن نعيش رومانسيته ونُرَدّد اغانيه الجميلة. ورُغم الأوضاع المأسوية الصعبة، وسنوات الدم والدمار التي أحرقت قلب شامنا التي عشقها نزار، فإنّ كلَّ الأجيال ما زالت تلجأ إلى أشعاره لتُطفئ نارغضبها، وتعيش لو في الحلم ذكريات الزمن الجميل وطيبة ناسه وياسمين الحب المغروس في قلب كل انسان.
عرفتُ نزار على مدى سنين من دون حواجز، وعايشته في أيامِ العزّ والعطاء وفي ساعات الالم والمرض، وحتى لحظات الموت والوداع . لكن هذا الشاعر المُبدِع وروحه المليئة بالحب والعطاء لم ترحل، بل بقيت حيّة في ذاكرتنا، و تتجدد كل ما سمعنا أشعاره الراسخة في أرواحنا.
سألتُ نزار مرّةً عن سرّ هذا الخلود؟ فأجاب لا سر ولا مَن يسرّون، بل قدرة عن التعبير عن مكوّنات الناس ومشاعرهم وأحاسيسهم إلى أيِّ جنسٍ كان من الكبير والصغير والطفل والعجوز والفقير والغني والمثقف. وذَكَرَ بأنه التقي في إحدى أُمسياته الشعرية عائلةً مُكوَّنة من الأُم والجدّة والحفيدة عبّروا جميعًا عن حبّهم له. كما قال لي بأنَّ طفلًا سارعَ إلى عناقه، وعندما سأل عن سبب حبّه له أجابه وبراءة الأطفال في عينيه لأنك تشبهني. نعم فقد كان نزار عابرًا للأجيال يُشبهنا في مشاعرنا، ومُحَطِّمَ القيود الاصطناعية، ومتجاوزًا للحدود العربية المُصطَنعة ليُمثِّل وحدة العرب الشعرية، ويتحوّل إلى ناطقٍ شعري وشعبي باسمهم. وهذا ما شرحته في كتاب “آخر كلمات نزار”. وما يهمّني هنا ما سجّلته من ذكريات ووقائع تجيب عن السؤال الأوّل عن لقب “مالئ الدنيا وشاغل الناس”، فرُغمَ مرور عقدين على وفاته فإنَّ الجَدَلَ ما زال مستمرًا وملتهبًا حول شعره وأفكاره وطباعه، فالنقدُ مُتاحٌ للجميع، ومعظم الكتب والدراسات والندوات تكاد تجمع على تخليد ذكراه والإشادة بما قدّمه لأمته ولشعبه .
ولا يحق لي ولغيري أن نمنعَ الانتقاد، لكنّي أجدُ من واجبي أن أعرُضَ مرافعة الدفاع عن نزار على لسانه وفق رسائل ونصوص مُوثَّقة وفق القيود التالية :
بالنسبة الى ما يُقال عن “الإباحية” في شعره وتجاوز التقاليد، يسخر نزار من الانتقادات ويقول: “أنا لا أَتَنَكّرُ لأولادي ولن أُقدِمَ على وأد بنات أفكاري. فأنا أتمسّك بكل قضية أُدافِعُ عنها، وعن كل ديوان، لكن الإنسان يدرك جيدًا، باستثناء المُغرضين، أنَّ لكلِّ مرحلةٍ أُسلوبها وشعرها، ولكل زمان قيمته وقيوده وضوابطه، ولكلِّ عُمرٍ نزواته و خلجات قلبه” .
ويضيف نزار: “نعم قد أكونُ كسرتُ جليدَ التقاليد البالية، وتحدّيتُ المحظورات، ولكني لم أتجاوز الخطوط الحمر لا في “طفولةِ نهد” ولا في “خبز وحشيش وقمر” التى تُعتَبَرُ أوَّل قصيدة في عصرنا تُثيرُ ضجة كبرى، وتُعرَضُ على مجلس النواب السوري بهدف الإساءة إليه”. لكنه خرج منها منصورًا.
لقب شاعر المرأة كان يحبه نزار، لكنه يرفض حصاره في هذا الركن وإغفال كل ما قدّمه من قصائد وطنية وعِبَرٍ إنسانية ودفاعه عن قضايا العرب من قصيدة القدس الشهيرة و”لماذا يبكون على راشيل ولايبكون على فاطمة” وأطفال الحجارة .
اما الشام فكان له فيها قصائد خالدة منها “ترصيعٌ بالذهب على سيفٍ دمشقي” التي تقول:
آه يا شام كيف أقرعُ بابي وأنا فيكِ دائمًا مَسكونُ
حاملاً حبها ثلاثين قرنًا فوق ظهري هناكَ مُعينُ
شام يا شام يا اميرة حبّي كيف ينسى غرامه المجنونُ؟
وغنّى للبنان “ست الدنيا يا بيروت”، وكان لبنان لكم مروحة” و”إلى بيروت الأنثى”. وبعد مجزرة قانا في جنوب لبنان التي قَتَلَ فيها العدو الإسرائيلي أكثر من مئةٍ من الأطفال والأولاد والنساء والشيوخ، كان نزار يتألم ويسأل عمّا يمكن ان نفعله فقلت له، في محطة ا”أم بي سي” التلفزيونية، التي كنتُ من المشرفين عليها، قررنا أن نُقيمَ يومًا تلفزيونيُا طويلًا، “تيليثون”، لنصرة إخواننا ودعوته إلى المشاركة شخصيًا في حملة جمع التبرعات مع عدد من الضيوف من أدباء وسفراء، فتحامل على نفسه رُغمَ أنه كان يُعاني من آلامٍ في الظهر بسبب “الديسك”، وجاء الى المحطة ليمضي اليوم في توجيه نداءات الخير. ولم يكتفِ بذلك بل نظّمَ قصيدة رائعة بعنوان “آكلُ من خبز لبنان وأنا مُقيمٌ في لندن” (14/6/1996)، قال فيها:
من الطبيعي ان يتضامن الشعر مع لبنان،
فمَن هو الشاعر إذا لم يدافع عن وردة جميلة تُذبح؟
أو عن لوحة جميلة تُذبح
أو عن مدينةٍ جميلة تُذبح
أو عن امراة جميلة تذبح
ولأنَّ بيروت مدينة جميلة جدًا
فقد دفعت ثمن جمالها
من ناحية أخرى، هناك لغطٌ كبير حول علاقة نزار بالدين ما أدى الى مهاجمته من قبل البعض. وأنا لا أحاولُ الدفاعَ عنه لكنّي أنقل ما رأيتُ وما سمعتُ وما قرأت. فقد كان نزار رجلًا مؤمنًا يتميّزُ بكل مقومات الرجل الصالح والصادق. وأذكرُ أني سالته مرة عن هذه المسألة فأجابني بانفعال: “أنا شاعرٌ ولستُ داعيةً دينيًا، ولا أنا من وعّاظ السلاطين، فلنُعطِ ما للشعر للشاعر، وما للدين لأربابه”. والواقع أنَّ مَن يحفظ أشعار نزار يَجِدُ فيها الكثير من الدلالات الدينية والإنسانية مثل قوله: “أشكرُ الله لأني لا أحتاج أحدًا، والحمدُ لله لقد أخذت حقّي من هذه الدنيا”. بل إنَّ الراحلة هدباء، عبرت عن ذلك بقولها: “سيأتي يومٌ وأكشف أسرارك كَمّ أنتَ تقيٌّ ونقيُّ و”بيتوتي”. وأنك لا زير نساء ولامغامرات ولا ليالي حمراء. تنام باكرًا وتنهض على أذان صلاة الفجر” .
و كان هناك تصورٌ خاطئٌ بانَّ هناكَ قطيعةً بين نزار والخليجيين أو بعضهم، وسألته عن هذا الأمر، فأكّدَ لي أنَّ لا عِلمَ له بها “اللّهُمَ إلّا إذا كان هناك بعض المُغرضيين والدسّاسين الذين حاولوا صب الزيت على النار، وأنا لدي في دول الخليج الأصدقاء الذين يقدروني و أقدرهم”.
ردّه هذا شجّعني على دعوته إلى محطة ا”أم بي سي” حيث أجريتُ معه مقابلة مهمة أحدثت صدى واسعًا وأظهرت ملامح جديدة من شخصيته الرائعة.
هذه باختصار شديد بعضٌ من ملامح شاعر العصر، شاعر العرب والمرأة. ولو اتسع المجال لغرفت المزيد من بحر نزار الهادر. وآمل أن أكونَ قد ألقيتُ الضوء لإيضاح أمورٍ كان يجب وضع النقاط على حروفها.

  • عرفان نظام الدين هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي مُقيم في لندن. كان سابقًا رئيس تحرير صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية وأحد المشرفين على محطة “أم بي سي” التلفزيونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى