بيروت قَلِقَة من حِيرةِ العَواصِم

محمّد قوّاص*

أن يأتي سليمان فرنجية أو العماد جوزيف عون أو أيُّ مُرَشِّح مُفتَرَضٍ آخر رئيسًا للجمهورية في لبنان، فهذا احتمالٌ لا يُقرّره اللبنانيون. الأمرُ ليس جديدًا في تاريخ البلد منذ استقلاله في العام 1943 وتاريخ الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية مُذاك. وهذا واقعٌ لا يُزعِجهم ولم يُزعِجهم قبل ذلك. لكن اللافت أن الآخرين، أي العواصم المَعنية في شأنٍ من المُفتَرَضِ أن يكونَ شأن اللبنانيين وحدهم، لم يهتدوا هذه المرة إلى الرئيس المُناسِب للبنان، وليس يسيرًا استنتاج الأمر بقراءة الخرائط في الإقليم والعالم.

للبنانيين نصيبٌ من المسؤولية في هذه الحيرة، ذلك أنَّ من شارك منهم في الانتخابات النيابية الأخيرة (41 في المئة) في أيار (مايو) 2022، أنتج بـ “فعلته” هذه برلمانًا مُتَشَظِّيًا لا يمنح غالبية وازنة إلى أيِّ فريقٍ سياسي. لكن المعضلة ليست هنا. فحتى لو توفّرت تلك الغالبية، فإن اختيارَ الرئيس في حكاية البلد منذ نشوئه، وخصوصًا منذ اتفاق الطائف في العام 1989، يقوم على توافقٍ لا تنفع معه الغالبية الكاسحة.

وحين الحديث عن التوافق، فإن الأمرَ ليس مُتناسِلًا من “الديموقراطية التوافقية” التي يقوم عليها النظام السياسي اللبناني فقط، بل إن من شرط التوافق اللبناني-اللبناني أن يكونَ مرآة صحيحة و”مطيعة” لتوافقٍ خارجي لطالما اتّخذ أشكالًا إقليمية-دولية تتغيّر طبائعها وطبيعة المُنتمين إليها وفق المرحلة الزمنية وظروفها الجيوستراتيجية.

والقصة هنا أن المنطقة العربية تعيش حالة تصدّعٍ وترقّب يصعب معها طغيان مزاجٍ على مزاجِ المنطقة العام. كما أن الإقليم شديد التوتر والتحوّل ويعيش انعطافات فيها الكثير من التجريب ولا يمكن الاطمئنان إلى نتائجها والركون إلى مآلاتها. والقصة أيضًا أن هذه “الحيرة” الاستراتيجية هي نفسها التي يعيشها النظام الدولي برمّته، بحيث صار من الصعب إنجاز رسم خريطة واضحة للتوازنات لإجبار أصحاب الشأن على تموضعٍ نهائي جديد وفقها.

يتسلّى اللبنانيون بتداول أسماء المُستَرئسِين وكأنها شخصيات في المسلسلات الرمضانية التي كانوا يتابعونها. والمعنى أنَّ في الأمر روايةً مكتوبة مُعَدّة ولا تفعل الشخوص غير أداء أدوارها وفق سيناريو غامض، مع احتمال أن يتدخّل المُخرِجُ لتغيير النهايات وفق تبدّل ذوق المشاهد أو مناكفة لتوقعاته.

وفي ما عدا المُشتِغلين في السياسة أو الصحافة وذوي الاختصاص، فإن الانشغالَ بالأمر يكاد يكون غائبًا بسبب يأس الناس من الطبقة السياسية، سواء تلك التي عرفوها وملّوا خطبها وفقدوا الثقة بها، أو تلك التي أنتجتها الانتخابات البرلمانية الأخيرة وعُوِّلوا عليها وجوهًا وواجهات تغييرٍ وإصلاحٍ وتطوير.

يتذكّر اللبنانيون توافقًا بين مصر الناصرية ومزاجًا دوليًا قاد إلى اختيار فؤاد شهاب ليتمّ انتخابه رئيسًا للجمهورية في صيف العام 1958. لاحظ هنا أن عملية الاختيار التي تُقرّرها غُرف الخارج سابقة على عملية الانتخاب المُفترَض أن يمارسها نواب الأمة بكل نزاهة وحرية ومن دون قيود. يتذكّرون أيضًا أنه منذ انتهاء الحرب الأهلية كان اسم رئيسهم يُقرَّرُ في دمشق حين كانت وصيّة برعاية عربية ودولية على شؤون لبنان، وأن الحملة الانتخابية، إذا جاز التعبير، كانت تجري في أروقة القرار لديها.

اختلفت طبيعة هذا الخارج هذه الأيام. ولطالما ردّد رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري مقولة “السين-سين” في ما تعنيه من تقاطع بين سوريا والسعودية لحلّ أزمات البلد السابقة. غير أن كومةً من الأحرف الأبجدية تحوم هذه الأيام ولا يبدو أنها قادرة حتى الآن على فرض إنزال سياسي ينهي أزمة الرئاسة في البلد، ويعيد انتاج سلطة بإمكانها الوصل مع العالم. وإذا ما اجتهد المجتهدون لرسم مسار القرار فإن خطوطه تمر ّفي الرياض وطهران وعواصم المنطقة انتهاء بباريس وواشنطن وعناوين أخرى.

كثيرةٌ هي أنشطة السفراء في لبنان ورحلات الموفدين إلى بيروت. مفارقةٌ أن يدقَّ ساسةُ لبنان أبواب باريس وواشنطن وعواصم الخليج علّهم يسترشدون بمعطياتها لاستنتاج معطى ما محتمل في لبنان. والغريب أن مواسم الوفاق والتسويات التي قامت عليها علاقات تركيا مع السعودية ومصر والإمارات، وتطوّر علاقات أنقرة وعواصم عربية مع دمشق، كما الاتفاق اللافت الذي أبرمته الرياض وطهران، لم تجد لها، حتى الآن، حصادًا داخل الحقول اللبنانية.

والمُقلق أن اسمَ الرئيس الذي سيتولى المنصب السياسي الأول في لبنان لمدة ست سنوات، ما سيُعيد حُكمًا تشكيل منظومة الحكم في البلد، لن ينتج عن موازين قوى منطقية متأصّلة ومستقرّة، بل قد يتمّ تمريره بلحظة عرضية عبثية. هذا تمامًا ما يرفع ويخفض حظوظ سليمان فرنجية وجوزيف عون وبقية المرشحين المحتملين الذين، وإن يأملون أن تكون اللحظة لحظتهم فيراقبون بصمت أو بالكلام المدروس، يُدركون أن لا أحد في لبنان يمتلك مفتاحًا واحدًا من مفاتيح قصر الرئاسة في بعبدا.

تبدو فرنسا مُتمسكّة بالمبادرة التي دشنّها رئيسها إيمانويل ماكرون منذ زيارته العاجلة إلى بيروت المنكوبة بعد ساعات على انفجار مرفئها في 4 آب (أغسطس) 2020. وتبدو عواصم الدنيا مُقِرّة لباريس هذا الدور قابلة بوظيفتها التنسيقية في تنظيم اجتماعاتٍ ثلاثية ثم خماسية وربما أكثر من ذلك لاحقًا يحجّ إليها ساسة لبنان (المسيحيون منهم خاصة) مستفسرين سائلين. وهي إذ ما زالت تتمسك بسيناريو فرنجية رئيسًا، فذلك أن ليس هناك في جعبة الآخرين سيناريو بديل. وكأن فرنسا في تمارينها تفتش عن هذه اللحظة العرضية العبثية التي تنعدم فيها الخيارات ويصبح مرشّحها رئيسا بالتذكية. ربما ذلك ما دفع فرنجية نفسه للإطلالة قبل أيام من الصرح البطريركي في بكركي مُلمّحًا بهذا القدر حتى لو تذكّرت باريس لاحقًا أن تعلن انَّ لا مُرشَّحَ لها في لبنان.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى