التجمّعُ المُضطَرب لأبناء إبراهيم

لا يزال تسييس الهوية الدينية والطائفية يمثل قوّة خلافية ومُولّدة للصراع في الشرق الأوسط، لكن الخطوات الأخيرة نحو الحوار بين الأديان وبناء مواقف ومؤسسات مشتركة تؤكّد على قدرة الكيانات الدينية على العمل من أجل تخفيف حدة هذا الصراع وتحقيق السلام.

الأمير محمد بن سلمان مع البابا تواضروس: لقاء مهمّ لاستعادة العلاقات الدافئة بين المسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط

بول سالم*

يُصادف عيد الفصح عند اليهود وعيد الفصح لدى الطوائف المسيحية وعيد الفطر لدى المسلمين هذا العام في شهرٍ واحد، وهي ظاهرة لا تحدث إلّا بضع مرّات في القرن. وتأتي المواءمة بين هذه الأيام المُقدَّسة اليهودية والمسيحية والإسلامية في وقتٍ يُقدّمُ الحوارُ بين الأديان الثلاثة بصيصَ أملٍ لشرقِ أوسطٍ يُمزّقه الصراع. في الشهر الفائت، افتتحت أبوظبي “بيت العائلة الإبراهيمية” الذي يضمُّ كنيسة ومسجد وكنيس جنبًا إلى جنب، وفي العام 2019 استضافت البابا فرنسيس وإمام الأزهر أحمد الطيِّب، اللذين وقّعا وثيقة الأخوّة الإنسانية. كما جلبت اتفاقيات أبراهام التطبيع بين إسرائيل وأربع دول عربية في العام 2020، وقد تنضمُّ إليها دولٌ رئيسة أخرى في المستقبل القريب. وقبل أسابيع، تصالح الخصمان الطائفيان، المملكة العربية السعودية وإيران، واتفقا على إعادة العلاقات بينهما.

في منطقةٍ أدّت فيها الاختلافات الدينية والطائفية إلى العنف والعداوة لعقود من الزمن، هل تُنذِرُ هذه التطورات بتحوُّلٍ جوهريٍّ نحو السلام والتعايش، أو هي غطاء مؤقت للصراع المستمر؟ يجب على القادة السياسيين والدينيين والمدنيين في المنطقة اغتنام هذا الزخم لتعزيز السيناريو الأول.

دور الدين في السياسة انحسَرَ وانتشر في الشرق الأوسط، وكذلك العلاقات بين مختلف الجماعات الدينية والطائفية في المنطقة. على مدى القرنين الماضيين، أدّى الصعود القوي لوجهات النظر العلمانية والعلمية التي أحدثها عصر التنوير والثورة الصناعية والاستعمار والقومية إلى فرض تحديات على الديانات الإبراهيمية الثلاث. جالت الحركات القومية العلمانية الشرق الأوسط طوال القرن العشرين. واعتقد العديد من العلمانيين أن دور وقوة الدين سيختفيان تدريجًا في العالم الحديث.

ألغى الزعيم التركي العلماني المتطرف مصطفى كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية في العام 1924، وظهر القادة القوميون العلمانيون في تركيا ومصر والعراق وسوريا وأماكن أخرى. قاموا بتوسيع نطاق الدولة العلمانية إلى حدٍّ كبير على المجتمع والتعليم، ما أضعف سيطرة النُخَب والمؤسّسات الدينية. لقد توحّد المسلمون والمسيحيون –واليهود حتى العام 1948– في العالم العربي معًا في بناء حركاتٍ سياسية علمانية جديدة: قومية واشتراكية وشيوعية. حتى أنَّ قيام دولة إسرائيل في العام 1948 أطلق العنان لصراعٍ خِيضَ إلى حدٍّ كبير من الخمسينيات إلى السبعينيات الفائتة بمُصطلحات قومية: القوميون العرب والقوميون الفلسطينيون مقابل القوميين الصهاينة الإسرائيلين. هذه الحقبة شبه العلمانية همّشت القوة السياسية للدين -لفترة- لكنها لم تجلب السلام. لقد استبدلت شكلًا من أشكالِ الصراعِ بآخر.

تحوّلَ المدُّ العلماني في المنطقة بشكلٍ حاسمٍ في السبعينيات الفائتة. لقد تراجعت الحركات القومية العلمانية في جميع أنحاء العالم العربي بسبب هزيمتها المريعة على يد إسرائيل في العام 1967، فضلًا عن فشلها في تحقيق الازدهار الاقتصادي والسياسي في الداخل أو الوحدة والنصر في الخارج. أدت أزمة الطاقة الناجمة عن رد الفعل السعودي على الحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1973 إلى ارتفاعٍ تاريخي في أسعار النفط، وتحَوُّلٍ في الثروة والسلطة من مصر والمشرق العربي نحو المملكة العربية السعودية وجيرانها من دول الخليج العربي الأكثر محافظة وتقيدًا بالدين. وشهدت إيران، التي غمرتها أيضًا السيولة النقدية من طفرة أسعار النفط، سقوط الشاه وصعود الجمهورية الإسلامية في العام 1979. كما أقنع الغزو السوفياتي لأفغانستان في العام نفسه الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وباكستان بتسليح وتدريب السنّة المتطرفين لمحاربة التهديد السوفياتي. وضاعف آل سعود، الذين واجهوا تحدّيًا إسلاميًا من إيران، وهجومًا من قبل المتطرفين السنّة على الحرم المكّي في العام 1979، جهودهم في دعم وتمويل المؤسّسات والحركات الإسلامية السنّية كوسيلةٍ لتعزيز شرعيتهم. في الواقع، بحلول التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم يتبقَّ سوى القليل من الشرق الأوسط الذي كان سائدًا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث بدا الدين كقوة شكلية والحركات القومية واليسارية العلمانية كانت تُحدّدُ المشهد السياسي – والميليشياوي.

بحلول العام 2000، وصلت الموجة الدينية إلى السلف الأصلي لعلمانية الشرق الأوسط، تركيا، حيث هيمن رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الديني المحافظ على السياسة التركية. في إسرائيل، أصبحت الدولة التي أنشأها في الأصل وهيمن عليها القوميون اليهود العلمانيون، أمام تحدٍّ متزايدٍ من قبل المتعصّبين الدينيين والمتطرفين – الجماعات التي تهيمن الآن على الحكومة الحالية تقريبًا. في الانتفاضات العربية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، واجهت الجماعات العلمانية -الليبرالية واليسارية والقومية- الجماعات الإسلامية، وكان للأخيرة اليد العليا بشكلٍ عام، سواء في الانتخابات أو في فوضى الحرب الأهلية. وقد أثار الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في العام 2003 بحدِّ ذاته موجةً من الاستقطاب الطائفي حيث تقاتلت الجماعات السنّية والشيعية من أجل السيادة.

بالنسبة إلى المسيحيين في الشرق الأوسط، كانت العقود القليلة الماضية كارثة لا يمكن تخفيفها. أّدى تراجعُ الحركات العلمانية القومية واليسارية، التي لعبوا فيها دورًا مركزيًا، وظهور الأصولية الإسلامية إلى تقويض مكانتهم في المجتمع. لكنهم نجوا في ظل اضطهاد تكافؤ الفرص للديكتاتوريات العربية. لقد قضى غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة على الدولة و”الأمن” القمعي الذي وفرته، وأطلق العنان لحرب أهلية طائفية كان المسيحيون فيها هم الأكثر ضعفًا. من 1.4 مليون قبل الحرب، أصبح عدد المسيحيين في العراق الآن أقل من 250.000.

في سوريا، سرعان ما تحوّلت انتفاضة 2011، التي كانت في البداية نقطة وحدة وطنية بين المتظاهرين المسلمين والمسيحيين، إلى دموية بالنسبة إلى المسيحيين. فضّلَ النظام تحويل الانتفاضة إلى حرب إطلاق نار، وسعى إلى استغلال الخلافات الطائفية لإضعاف المعارضة، وأطلق سراح أعداد كبيرة من المتطرفين الإسلاميين من سجونه. ومع اضطرار المعارضة إلى اللجوء إلى السلاح، هيمنت الجماعات الإسلامية، التي حصل بعضها على الدعم من الدول والمؤسسات الموالية للإسلاميين في المنطقة وبايع البعض الآخر تنظيم “القاعدة”، على المعارضة.

في مصر، أرعبَ الحكم القصير لجماعة الإخوان المسلمين بين العامين 2012 و2013 المجتمع المسيحي القبطي المُهَمَّش أصلًا وعزّز دعمهم لعودة الجيش إلى السلطة. كان لقاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والبابا القبطي تواضروس الثاني في العام 2018 خطوةً مهمّة في استعادة العلاقات الدافئة بين المسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط. يُمثل البابا تواضروس الثاني أكبر طائفة مسيحية في المنطقة، وليس البابا فرانسيس في روما. كما تراجعت أعداد المسيحيين في الأردن وكذلك في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية. أما في لبنان الذي تميّز تاريخه بالاضطراب في التناوب بين الاقتتال وتقاسم السلطة بين مختلف طوائفه الدينية، فهو في الوقت الحالي يشهد تشاركًا بالتساوي بين هذه الطوائف في البؤس الناجم عن الفساد وعدم الاستجابة الإجرامية لحكم الأوليغارشية الطائفية.

ومن المثير للاهتمام أنَّ رقّاص الساعة الديني العلماني قد بدأ في التأرجح مرة أخرى. في الشرق الأوسط اليوم، إيران كانت السبّاقة حيث يتخذ الجيل الصاعد فيها أشجع موقف ضد السلطة الدينية والقمع. في غضون ذلك، قررت القيادة في المملكة العربية السعودية المضي قدمًا في هذه الموجة من خلال عكس أربعة عقود من السياسة منذ العام 1979، والقضاء على الشرطة الدينية، والمضي قدمًا في الانفتاح الجذري للمجتمع على المستوى الثقافي والاجتماعي -على الرغم من أنه ليس سياسيًا بالتأكيد- الذي جلب موجة طال انتظارها من العلمنة والتمكين الاجتماعي والاقتصادي للمرأة. وانتقدت حركات الاحتجاج في لبنان والعراق السياسات الطائفية والفساد وطالبت بنظام أكثر مدنية وشفافية.

ومع ذلك، فإن تسييس الهوية الدينية والطائفية لا يزال يمثّل قوة خلافية ومولِّدة للصراع في الشرق الأوسط. وتؤكد الخطوات الأخيرة نحو الحوار بين الأديان وبناء مواقف ومؤسسات مشتركة على قدرة الكيانات الدينية على العمل من أجل تخفيف حدة الصراع وتحقيق السلام. كما أن عودة ظهور القوى العلمانية في بعض مناطق المنطقة قد يساعد أيضًا على تهدئة الصراع الديني، وخصوصًا الطائفي.

وبالفعل، فإن التقاء الأعياد الدينية الثلاثة هو مناسبة حلوة ومرّة. إنه يُلمّح إلى فرصة تحقيق مستقبل أكثر سلامًا وانسجامًا في مسقط رأس الديانات الثلاث، ولكنه يؤكد أيضًا على العمل الشاق الذي لا يزال يتعيَّن القيام به لعكس الانقسامات الدينية العميقة الموجودة اليوم.

الآن بعد استعادة العلاقات الديبلوماسية، يجب على المملكة العربية السعودية وإيران العمل معًا لإنهاء العنف والصراع في اليمن ولبنان وسوريا والعراق، ودعم جهود السلام وبناء الحكم والسلطة في هذه الدول. وأتاحت اتفاقيات أبراهام بين إسرائيل وبعض جيرانها العرب للعلاقات الثنائية أن تزدهر، وحققت مكاسب كبيرة في التجارة، والاستثمار، والتنمية، والسياحة، والتكنولوجيا، وقطاعات أخرى. لكن هذه الاتجاهات تزامنت مع تدهور الأوضاع محلّيًا. بعد أقل من ثلاث سنوات على توصل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى اتفاقات أبراهام، تحكم إسرائيل اليوم الحكومة الأكثر يمينية وتطرّفًا في تاريخها، ما يجعل الحياة تحت الاحتلال أكثر تعقيدًا. لن يجد اليهود والعرب في جميع أنحاء المنطقة تطبيعًا دائمًا حتى يتم تحقيق تقدم وتسوية عادلة للقدس والشعب الفلسطيني.

بعد خمسة آلاف عام على ولادة اليهودية في المنطقة، و2000 على ظهور المسيحية، و1400 على انتشار الإسلام، تُقدّمُ اللحظة الحالية بوادر أمل في التعايش والتعاون بين الديانات الثلاث. لكن تسييس الدين يظل قوة فاعلة، حتى في عالم اليوم، حيث لا يزال مُستخدَمًا باقتدار من قبل عددٍ كبير جدًا من القادة للتقسيم بدلًا من التوحيد. إنه لأمرٌ مأسوي أن الأديان التي تؤمن بالإله نفسه قد ولَّدت الكثير من الانقسام والصراع. لكن دعونا نستخلص من الآبار البديلة للروحانية والسلام والنوايا الحسنة التي تقدمها جميع الأديان وتعمل من أجل مستقبل لا يكون فيه التقاء الأعياد الثلاثة تذكيرًا حلوًا ومرًا بما كان يمكن أن يكون، ولكنه نذيرٌ أو مُبَشّرٌ بأشياء آتية. فصحٌ يهوديٌّ مجيد، وفصحٌ مسيحيٌّ سعيد، وفطرٌ مبارك.

  • بول سالم هو الرئيس والمدير التنفيذي لمعهد الشرق الأوسط. يركز على قضايا التغيير السياسي والانتقال والصراع وكذلك العلاقات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط. يمكن متابعته عبر تويتر على: @paul_salem
  • يصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره بالإنكليزية على موقع معهد الشرق الأوسط (واشنطن)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى