أَجمل الطيور بريشاتهم (2 من 2)

دونديكوتِر: “الريشة العائمة”

هنري زغيب*

في الحلقة السابقة كتبتُ عن الطيور التي، بجمالاتها وتنوُّعها، ظهرَت في عدد كبير من لوحات رسامين كثيرين في العالم، وعبر تيارات فنية كثيرة كالانطباعية والطبيعية والرومنطيقية. فأَلوان الطيور وأَشكالُها وأَحجامها المتعددة تُغري الرسام حتى لقطْع مسافات طويلة أَحيانًا (أَو أَسفار بعيدة) من أَجل التقاط هنيهاتٍ هاربةٍ لعصافيرَ طائرةٍ أَو حاطَّةٍ على أَغصان أَو زائغة في غابة أَو بستان.

بين عشرة رسامين وضعوا لوحات عن الطيور، اخترتُ في الحلقة الماضية خمسةً، وهنا في هذه الحلقة الخمسةُ الآخرون.

  1. “الريشة العائمة” للهولندي ملخيور دونديكوتِر (1636-1695)

هو رسام آخر اشتُهر خصيصًا برسم الطيور على أَنواعها، من أُوزّ وبطّ ودجاج وحمام وطواويس، وخصوصًا عصافير. وهذه اللوحة “الريشة العائمة” (1680) تندرج في سياق المجموعة التي أَصدرها سنايْدِر “كونشرتو الطيور”، فكانت مميزةً ومثالًا في أُسلوبها الذي عاد فانتشر بعد عقود من غياب صاحبه. وفي اللوحة تنوُّعٌ من الطيور المائية وأَنواع أُخرى من طيور تعيش في المستنقعات أَو محيطها. وعند عرضه للمرة الأُولى كان عنوانها “البجعة وطيور أُخرى قرب البحيرة” لأَن الحجم الأَكبر في اللوحة كان لبجعة كبيرة بيضاء تحتل مقدمة اللوحة.  وسنة 2021 أَخذ الموسيقي البريطاني وليم دُوْيْل صورة هذه اللوحة ووضعها على غلاف أُسطوانته الأَخيرة: “فسحات موسيقية كبيرة في الزمن الموحل”.

فريدريتش: “شجرة الغربان”
  1. “شجرة الغربان” للأَلماني كاسبار ديفيد فردريتْش (1774-1840)

هو من أَبرز الرسامين الرومنطيقيين في القرن التاسع عشر. ويذهب النقاد ومؤَرخو الفن إِلى اعتباره أَشهر وأَهمَّ رسام أَلماني في عصره، مشيحين عن كون لوحته “شجرة الغربان” (1822) فاقدةَ بهرجة الأَلون ودقَّة التفاصيل، تُظهر شجرةَ سنديانٍ عتيقةً ملتفةَ الأَغصان الدهرية، شبهَ عارية من الأَوراق. ورأَى فيها النقاد رمزًا لكآبة الخريف في بعض المناطق من أَلمانيا، حين تَعرى الأَشجار من أَوراقها وتبدو كئيبةً بين أَحضان الطبيعة. وتلك كانت براعة فردريتْش وفرادته في تصوُّره الطبيعةَ وتصويره إِياها، فهو لم يكتفِ عند نقله ما فيها من بهجة وجمال، كما في لوحات الطبيعة عادةً، بل في تمجيد ما فيها من سمُوٍّ يجمع روحانية المشهد إِلى مضمونه الموحي.

  1. “الملعقي الزهري” للأَميركي جون جيمس أُودوبون (1785-1851)

يرى مؤَرخو الفن التشكيلي أَنه أَبرز رسام فتيٍّ في عصره. ولوحته هذه (1833) رسمها إِبان زيارته لمنطقة جنوبي فلوريدا،  وهناك وضع عددًا من اللوحات المتشابهة للطيور عند نقاط مائية ومستنقَعِيَّة في تلك المنطقة. وهو رسم في هذه اللوحة هذا الطائر الفريد شكلًا ونوعًا ذا منقاد يشبه الملعقة، يعيش في تلك النواحي، لكن المؤَرخين يعتقدون أَن المشهد العامّ من “تأْليف” أُودوبون وليس واقعيًّا كما يظهر في اللوحة. من هنا ما أَضاف إِليه من مشهد محيط غير واقعي. لكن اللوحة تبقى في مجموعة أَوسع وضعها الرسام حول الطيور في أَميركا عبر مختلف أَنواعها وأَشكالها، فإِذا بتلك المجموعة اليوم مرجع لأَكثر من موقع ومركز بحث.

روسُّو: “طُيُور الفلامنكو”
  1. “طيُور الفلامنكو” للفرنسي هنري روسُّو (1844-1910)

هو من مرحلة تلَت الانطباعية. اشتُهر بأُسلوبه الساذج الذي يبدو بدائيًّا لكنه مشغول كي يبدو كذلك. ولُقِّبَ أَيضًا “الجُمرُكي” (“لو دوانييه”) نسبةً إِلى الوظيفة التي كان يشغلُها (جابي الضرائب) لدى مصلحة الجمارك في فرنسا.

خص كثيرًا من لوحاته لرسم الطيور فاشتُهر بها عند مطالع القرن العشرين، وخصوصًا في عدد من لوحاته لطير “الفلامنكو” بالذات. ولوحته هذه (1907) تشي بحبه الرسمَ في قلب الطبيعة. وهو ركَّز فيها على الأَلوان وانسياب المياه في النهر وسْط بقعة واسعة بمحاذاة الغابة، وفيها أَربعة طيور فلامنكو تتهيَّأُ لــمدِّ مناقيدها بحثًا عن فتات لطعامها على وجه المياه. وتبدو في قلب النهر “زنابق الماء” زاهيةً نضرةً ذاتَ أَلوان ساطعة تَزيد من نضارة اللوحة عمومًا. وينقل مؤَرخو الفن أَن روسُّو وضع في حياته نحو 250 لوحة، ضاعت منها 100 وقدَّم قسمًا من الباقي إِلى البقَّال لقاء ما استدان لديه من بضاعة، والغسالة لقاء غسلها ثيابه، وبائع السيارات لقاء سيارة اشتراها لديه.

كْلِي: “طُيُور صفراء”
  1. “طيور صفراء وسط الطبيعة” للأَلماني بول كْلِي (1879-1940)

من مواليد سويسرا، تأثر بتيارات تشكيلية مختلفة بين انطباعية وتكعيبية وسوريالية، فجمع بينها في أُسلوب خاص اشتُهر به. سوى أَنه عُرف بأَنه بين أَشهر فنانين حديثين كما كان فان غوخ في عصره. وغلب على أَعماله طابع الانطباعية السوريالية.

وهذه اللوحة (1923) هي من أَشهر لوحات كْلِي عن الطيور. تذهب في سياق لوحات له شبيهة تُدخل رائيها إِلى مناخ طبيعي خاص لا يجده إِلَّا في لوحات كْلِي.

في هذه اللوحة مجموعة منوَّعة من الطيور الصفراء في أَشكال وأَوضاع مختلفة، إِنما وسْط زوغة من الأَلوان الجميلة، وكلُّ عصفور بينها مستقلٌّ بذهبيةِ لونه كأَنما هو دخيل أَو طارئ على اللوحة. وعن النقاد أَن هذه اللوحة أوحت لرسامين كثيرين من تيار الحداثة، تأَثَّروا بأُسلوب كْلِي فوضعوا أَعمالًا في الطبيعة أَكملَت ذاك الأُسلوب الجامع بين مذاق الانطباعية وغرابة السوريالية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى