حلوةُ العينين تنتظرُ اليومَ الثالث

هنري زغيب*

صامتةً كزنبقةِ الحقول، عاشقةً في لفتةِ السؤَال، وصلَتْ حلوةُ العينين بين المصلِّين، تصلِّي في خَشْعة الإِيمان. سَمِعَتْهُم يُرتِّلون: “واحبيبي… واحبيبي… أَيُّ حالٍ أَنتَ فيه”… أَخذَتْها لفظةُ “حبيبي”… توجَّهَتْ إِلى صحن الشمع… أَشعلَت شمعةً على اسم حبيبها… تأَمَّلَتْ نورَها يَصَّاعدُ في سكون الكنيسة، ونذَرَت أَن يكون هذا النورُ واحةً لحبِّها الآتي إِلى وعْد الربيع.

أَخذَتْ مكانها في الكنيسة، والجمعُ منخطِفٌ إِلى الدُعاء: “أَنا الأُمُّ الحزينة وما مَن يعزِّيها”… أَخَذَتْها من جديدٍ ميلوديا الترتيلة فأَصغَتْ أَكثر… تأَمَّلَتْ أَكثر… نَدَهَتْها العبارةُ المكرَّرة: “فَلْيَكُنْ موتُ ابنكِ حياةً لطالبيها”… التفَتَتْ إِلى صديقها القديس: “هل يمكن أَن تكونَ حياةٌ من الموت”؟ شعَرَت بعينيه المغْمَضَتَين تهمِسان لها: “وحدَهُ الحبُّ يحْيي… وحدَهُ الإِيمانُ يَقْوى على الموت”…

مُؤْمنةٌ هي بصديقها القدِّيس منذ انكشفَتْ لها أُعجوبتُه فآمنَتْ… “وحدَه الحُب يحْيي”، قال لها القدِّيس. فآمنَتْ من جديدٍ أَنْ جاءَها الحبُّ في الخريف ليُحيلَ خريفَها ربيعًا دائمًا، سعادةً دائمةً، بعدما ذاقَت من سنوات العمْر مرارةَ القهْر الصامت والعذاب السَكُوت.

رفعَتْ إِليه عينيها من جديد… خاطَبَتْها عيناهُ المغْمَضَتان: “اليوم عُلِّقَ على خشَبَة… الذي علَّقَ الأَرض على  المياه”… عاد إِليها الإِيمانُ بالعمْر الجديد الآتي من صَحْو الصيف إِلى نِهالِ ربيعٍ سيكونُ موسمًا دائمًا لجميع الفصول.

“الذي علَّق الأَرض على المياه”… تمامًا كدَيرٍ مُعَلَّقٍ على قمَّةِ تلةٍ ليكونَ أَقربَ إِلى السماء… “علَّق الأَرضَ على المياه…” وعلَّقَ العُمْر على وعدٍ بالسعادة الآتية، بالفرح الذي أَتى كي لا يعودَ يَغيب… فالشمس تنحسِرُ عن تلَّة الدير لتعودَ فتُشرقَ عليه صباحًا مُعلنةً يومًا من الحب جديدًا في هناءَة العمر الذي احلَوْلى منذ وُلد هذا الحب الغامر.

تلتفتُ حُلوةُ العينين إِلى الشمعة التي أَشعَلَتْها عند الباب… تراها ما زالت شاعلة… تأَمَّلَتْ خيطَ دخانها يتصاعدُ في فضاء الكنيسة، ومعه يتصاعدُ دعاءُ المؤْمنين: “فَلْيَكُنْ موتُ ابنكِ حياةً لطالبيها”. أَحبَّت هذه الــ”حياةً لطالبيها”، فهي أَيضًا طالبةٌ حياةً لحياتها التي منذ وُلِدَ فيها الحبُّ عرفَت الفرح والسعادة مع حبيبها الذي، من يومِ عرَفَها، مسحَ عن جبينه تعَبَ السنين، ورأَى إِليها فرأَى فيها شعاعةً من السماء تُنقذُه من صحراء العمر. ومن يومِها صارت حلوةُ العينين أُغنوجتَه الـمُحْـيِـيَـة… إِذًا هذه هي الــ”الحياةُ لطالبيها”: تولَدُ من لحظة الحب، وتتوالد كلَّ صباحٍ حين يفتحُ عينيه على جمالها، وكلَّ ليلة حين يُغمضُهُما على جمالها ويذهبُ إِلى الحلم العاشق.

مجدَّدًا تؤْمنُ حلوةُ العينين أَنها نِهال، النبتةُ الجميلة، النضِرةُ الخضراء، الريَّانةُ التي تولدُ في أَول الربيع وتُرافقُ جميع الفصول والأَيام.

أَصغَت بعدُ إِلى جمهور المصلِّين في الكنيسة: “… وصُلِبَ وقامَ في اليوم الثالث كما جاء في الكُتُب”… إِذًا هو اليومُ الثالثُ آتٍ… وسوف يُدحرجُ الحجَرَ ويَخرُجُ من القبر، ويبتهجُ المؤْمنون: “المسيحُ قام… حقًا قام”.

تبتهجُ حلوةُ العينين في صمتها… تعرف أَنها فعلًا هي النِهال… تبتسِمُ لصديقِها القدِّيس، شفيعِها القديس، تَرى صوتَ سكونِ عينيه يهامسُها: “نعم: لا تقْنَطي… اليومُ الثالثُ آتٍ… خلِّيكِ في الإِيمان… الحبُّ يحيا في الإِيمان بالقيامة في اليوم الثالث”.

تتوقَّفُ التراتيلُ حولَها… يبدأُ المؤْمنون بالمغادرة… وحين لم يَعُد في الكنيسة سوى حلوةِ العينين، استدارَت في صمْتِ الخُشُوع، فوَجدَتْ شمعتَها تُرسلُ الشعاعَ الأَخيرَ قبل أَن ينطفِئ، ليولَدَ في قلبِها نورُ حبٍّ يَنتظرُ هو الآخَر شعلتَه الدائمة في اليوم الثالث.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى