مَعرَكَةُ السيسي العَقيمة مع التَضَخُّم

ماجد مندور*

نشرت الحكومة المصرية، في 9 آذار/مارس 2023، إحصاءات رسمية عن مستوى التضخم. تكشف هذه الأرقام الرسمية عن زيادة حادّة في التضخم، مع تسجيل التضخم الكُلّي السنوي مستوى قياسيًا بلغ 31.9 في المئة، والارتفاع الهائل في نسبة التضخم الأساسي إلى 40.26 في المئة. وأكثر ما يثير القلق هو أن الزيادة الأكبر كانت في أسعار المواد الغذائية التي قفزت بنسبة 14.4 في المئة على أساسٍ شهري، و61.8 في المئة على أساسٍ سنوي، ما تسبّب بضغوطٍ شديدة على الأُسَر المُنخَفِضةِ الدخل. واتّبع البنك المركزي المصري، في تعامله مع الموجة التضخمية خلال العام المنصرم، الإملاءات الاقتصادية التقليدية، من خلال زيادة أسعار الفوائد، التي ارتفعت في العام الفائت بمقدار 800 نقطة أساس، في مسعى لكبح التضخّم.

المنطقُ وراء هذه السياسة بسيطٌ إلى حدٍّ ما: يُفترَضُ أن تؤدّي الزيادة في أسعار الفوائد إلى امتصاصِ السيولة وخفض الطلب، وبالتالي تخفيف الضغوط على الأسعار. ولكن في الحالة المصرية، يكشف هذا المنطق عن سوءِ فَهمٍ جوهريٍّ للضعف الاقتصادي البنيوي وأسباب التضخم الجذرية في البلاد، والتي تتمثّل بالتراجع السريع في قيمة الجنيه المصري ونقص العملات الصعبة.

تستند السياسة المذكورة آنفًا إلى الافتراض الأساسي بأنَّ التضخّمَ ناجمٌ عن ازديادِ الطلب المحلّي. لكن ذلك ليس صحيحًا على الإطلاق في مصر؛ بل على النقيض تمامًا، تتقلّص السوق المحلية. على سبيل المثال، أظهر القطاع الخاص المصري، حتى كانون الأول/ديسمبر 2022، علامات انكماشية لمدة 25 شهرًا متتالية، ما يُعتبَر مؤشرًا إلى انخفاضِ الطلب، مع تسجيل القطاع الخاص في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي أسوأ أداءٍ له منذ تفشّي جائحة كوفيد-19 في آذار/مارس 2020. وكان انخفاضُ الطلب ناجمًا عن التراجع السريع في قيمة العملة، والقيود على الاستيراد بسبب نقص العملات الصعبة، والتي تُعتبَر السبب الحقيقي خلف الموجة التضخّمية التي تعصف بالبلاد (تجدر الإشارة إلى أن نسبة 47 في المئة من الواردات المصرية تُستخدَم بمثابة مدخلات للإنتاج).

علاوةً على ذلك، تتجاهل هذه السياسة هيكلية القطاع المصرفي المصري. على سبيل المثال، واستنادًا إلى بيانات 2021، لا يتعدّى مجموع البالغين الذين يمتلكون حسابات مصرفية 38 في المئة من مجمل السكان. يُلقي هذا الرقم، الذي هو مؤشّر عن عدم نضوج القطاع المصرفي، بشكوكٍ حول فاعلية السياسة الجديدة في خفض الطلب وامتصاص السيولة. ولذلك من غير المرجّح أن تؤدّي الزيادات المزمعة مستقبلًا في أسعار الفوائد إلى إبطاء التضخم، ولكن من شبه المؤكّد أنها ستزيد الضغوط على مالية الحكومة وتُفاقِمُ أزمة الديون. والحال هو أن نظرة سريعة إلى هيكلية الائتمان المصرفي تكشف أن الدولة المصرية هي الجهة المُقترضة الأكبر، مع تراجع نسبة إقتراض القطاع الخاص من 42 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2008 إلى 27 في المئة في العام 2020.

من الواضح أن الزيادة في أسعار الفوائد ستُمارِسُ ضغوطًا إضافية على الموازنة الحكومية الرازحة أصلًا تحت أعباءٍ ثقيلة، حيث يشكّل سداد القروض نسبة 54 في المئة من النفقات الحكومية. ويزداد هذا الوضع سوءًا بسبب اعتماد نظام الضريبة التنازلية في مصر، والذي يؤدّي إلى نقل الثروات إلى الدائنين على حساب الطبقات الدنيا والمتوسطة. ففي العام 2020 مثلًا، أمّنت الضريبة على القيمة المضافة وسائر الضرائب على السلع والخدمات 45 في المئة من الإيرادات الضريبية – وجميعها ضرائب تنازلية نظرًا إلى أنها تُقتَطَع من الاستهلاك لا من الدخل. وفي هذا الصدد، يُشار إلى أن هذه النسبة تبلغ 32 في المئة في دول منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي.

خلاصة القول، السياسة النقدية ليست كافية لمعالجة أزمة التضخّم في مصر، ولا بديل من إصلاحٍ اقتصادي جوهري يستهدفُ صيغةَ الرأسمالية العسكريتارية التي يفرضها النظام. والحال هو أن الزيادة في أسعار الفوائد لن تؤدّي سوى إلى تعميق الأزمة من خلال ممارسة ضغوطٍ إضافية على مالية الحكومة، فيما تفشل في جذب استثمارات لتوظيفها في أدوات الديون المصرية. يُشكّل معدل التضخّم المُرتفع جدًا عائقًا كبيرًا أيضًا أمام سياسة تقديم أسعار فوائد عالية لجذب المستثمرين، حيث تُصنَّف أسعار الفوائد الحقيقية في المرتبة الأدنى بين 50 اقتصادًا ناميًا. وهكذا، لم يعد النموذج القديم القائم على استخدام التضخم لاستقطاب التدفقات الرأسمالية قابلًا للحياة، ويجب إجراء تحوّلٍ جذري في السياسة المُتّبعة. وإلّا سيستمرّ التضخم الشديد في المستقبل المنظور.

  • ماجد مندور هو مُحّلل سياسي وكاتب يساهم بانتظام في “ Arab Digest“، و”Middle East Eye و”Open Democracy“. وهو أيضًا مؤلّف الكتاب الذي سيصدر حديثًا بعنوان “مصر في عهد السيسي” (Egypt Under Sisi). يمكن متابعته عبر تويترعلى:  @MagedMandour

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى