ماكرون في الصين: أوروبا بين واشنطن وبكين!

محمّد قوّاص*

لا تُمثّلُ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصين حدثًا أوروبيًا استثنائيًّا. قبل ذلك توافد المسؤولون الأوروبيون إلى بكين. رئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز في آذار (مارس) و ومستشار ألمانيا أولاف شولتس في تشرين الثاني (نوفمبر). ولا شكَّ أنَّ زعماءً آخرين سيطرقون الباب الصيني في السعي إلى تدبير علاقاتٍ محسوبة في موسم الصراع الصيني-الأميركي

ذهبَ ماكرون إلى الصين مع “جيشٍ” من رجال الأعمال وقادة الشركات الكبرى. وحين وصل لمقابلة نظيره الصيني شي جين بينغ كانت استطلاعات الرأي في باريس تكشف عن انهيارٍ في شعبية سيّد الاليزيه إلى مستوى غير مسبوق. والبعض رأى في رحلة ماكرون هروبًا إلى الشرق لعلّه يعود من هناك بـ “غنائم” وبصورةٍ أُخرى من تلك التي التصقت به بسبب الصراع في بلاده بشأن إصلاح نظام التقاعد.

أراد ماكرون أن يتقدّمَ إلى الصين بصفته زعيمًا أوروبيًّا وهو يعرف أهمية الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلى بكين. دعا رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان دير لاين للإنضمام إلى رحلته والتخاطب مع الزعيم شي جين بينغ بلغة أوروبا بدولها الـ27.

يستطيع ماكرون أن يستندَ على صقورية الرئيسة الأوروبية في ما عُرِفَ عنها من انتقادٍ لبكين وتحذيرٍ من دعمها لموسكو في حرب أوكرانيا. بالمقابل فإنه يتقدم نحو الصين حاملًا عقود “البزنس” معتمدًا على خطابه الداعي إلى الحوار مع الصين ودعوتها للعبِ دورٍ لـ”عقلنة” روسيا في أوكرانيا. وقد يُفهَمُ من هذه الماكرونية ابتعادًا عن واشنطن في تقييمها لدور الصين في العالم لجهة اعتبارها منحازة في حرب أوكرانيا لصالح موسكو.

يسعى الأوروبيون إلى اصطناعِ قراءةٍ إيجابية لموقف الصين من حرب أوكرانيا. لم تُصَفّق بكين لـ “العملية العسكرية الخاصة” التي أعلنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 24 شباط (فبراير) 2022، لكنها لم تُدِن الحرب. قبل ذلك لم تعترف بكين بقرار ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014 ولم تعترف لاحقًا بقرار بوتين في 30 أيلول (سبتمبر) 2022 ضمّ 4 أقاليم (دونيتسك، لوغانسك، زابوريجيا، خيرسون) تحتلها روسيا في أوكرانيا.

غير أنَّ الصين بقيت مع ذلك محافظة على تطوير علاقاتها مع روسيا ورفع التبادلات التجارية (30 في المئة في 2022 عنها في 2021) معها وخصوصًا في قطاعَي التكنولوجيا والطاقة (أصبحت روسيا منذ أيار/مايو 2022 أول مورّد للنفط للصين). وبقيت بكين متمسّكة بتفسيرٍ للحربِ في أوكرانيا يُنحِي باللائمة على الغرب و”الناتو” في التسبّب بها. وحين قدّمت الصين في 23 شباط (فبراير) الماضي خطة وساطة لإنهاء الحرب هناك، جاءت نقاطها الـ 12 ضبابية غامضة حمّالة أوجه قابلة للاجتهاد.

لا تخفي حفلات الترحيب بالضيف الفرنسي والضيفة الأوروبية توتّرًا مُقَنَّعًا في علاقات أوروبا والصين. لم يفصح مشهد الطاولة العملاقة التي جمعت الزعيم الصيني يضيفيه ودّا بقدر ما أفرجت عن صراعٍ بين العمالقة. تغيّرت بكين منذ تبوّؤِ شي جين بينغ سدة الحكم في بلاده في العام 2012 وازدادت حدّة مواقفها مع الغرب على ما شهده المؤتمر الـ 20 للحزب الشيوعي الصيني (افتتح أعماله في 26 تشرين الأول/اكتوبر 2022) من توطيد لسلطة زعيمه من جهة، ونصوص وجب وفقها التدقيق في طبيعة الودّ الذي ما زالت بكين تزعمه لأوروبا من جهة أخرى.

يعرف ماكرون وفون دير لاين أن بلدانًا داخل الاتحاد الأوروبي، وأهمها ألمانيا، تعوّل في اقتصادها على علاقاتٍ مُتقدّمة مع الصين بغضّ النظر عن علاقاتها مع الولايات المتحدة. بالمقابل فإنهما يُدركان أيضًا أنَّ الاتحاد الأوروبي سوقٌ مهمّة جدًا بالنسبة إلى الاقتصاد الصيني (ارتفع حجم التجارة بين الاقتصادَين 23 في المئة في العام 2022 مقارنة بالعام 2021 ليصل إلى 912.6 مليار دولار).

على هذا تبدو العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية الروسية التي وقّعها بوتين في 31 آذار (مارس) الماضي خارجة من الأفران الإيديولوجية التي تتسرّب من نصوص الحزب الشيوعي الصيني بزعامة شي. ففيما الدبابات الألمانية والبريطانية والاسبانية والمدافع الفرنسية والمقاتلات البولندية .. إلخ تدخل المعركة في أوكرانيا إلى جانب كييف، فإن موسكو في عقيدتها الجديدة لا ترى مانعًا من التفاهم مع الأوروبيين مقابل اعتبار الأميركيين أعداء وخصوم.

تلتحق روسيا بالمدرسة الصينية في هذا الصدد. تعوّل بكين على مُداراة الأوروبيين وعقد تحالفات اقتصادية معهم عامة وإبرام عقود متقدّمة ومُثيرة للجدل مع بعض دول الاتحاد الأوروبي. صحيح أن نصوص الاتحاد وحلف الناتو باتت تعتبر الصين “تحدّيًا حقيقيًا” وتتمدد أذرعهما صوب منطقة المُحيطَين الهادي والهندي، لكن بكين تسهر مع ذلك على رعاية وصيانة وتغذية تباين في نظرة أوروبا عن نظرة أميركا بشأن الصين، وتشجع بصمت هذا النزوع الذي يدافع عنه ماكرون من أجل استقلالٍ أوروبي استراتيجي ودفاع مستقل.

وإذا ما كانت الحرب انطلقت على نحوٍ أكثر توتّرًا بين الولايات المتحدة والصين وباتت استعراضات الطرفين العسكرية حول تايوان وفي بحر الصين وعلى امتداد تحالف “كواد” و “أوكوس” تنذّر باحتمالات الصدام الكبير، غير أن العالم، الغربي خصوصًا، وفرنسا وأوروبا بهذه المناسبة، ترى أن الصين إن كانت شرًّا فهو لا بد منه، وأنها باتت رقمًا صعبًا في المشهد الدولي من خلال تجمّعاتٍ اقتصاديةٍ صاعدة مثل “شنغهاي” و “بريكس” وامتداداتها الدؤوبة في أفريقيا ولدى الدول النامية التي ذكّر وزير الخارجية الصيني تشين غانغ في آذار (مارس) الماضي أنها تمثل 80 في المئة من سكان العالم و 70 في المئة من النمو الاقتصادي العالمي.

مفارقة أن يقوم الوفد الفرنسي-الأوروبي بزيارةٍ إلى الصين فيما رئيسة تايوان، تساي إنغ ون، تزور الولايات المتحدة ما يثير غضب بكين. يغادر ماكرون الصين وتنتظر بكين وصول رئيس البرازيل لويس ايناسيو لولا دا سيلفا. باتت الصين تمتلك ديبلوماسية حيوية نافرة. يكفي تأمل الانقلاب الذي حققته برعاية الاتفاق السعودي-الإيراني في 10 آذار (مارس) الماضي وصولًا إلى ما يتوسّله رئيس فرنسا من دورٍ صيني لارتكاب انقلابٍ آخر يُنهي الحربَ في أوكرانيا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى