غَريبٌ عند البوّابة

عبد الرازق أحمد الشاعر*

يُمكِنُكَ أن تَذهَبَ إلى ساحةِ الحَربِ وأنتَ تَحمِلُ فوق رأسِكَ خبزًا لا يأكلُ منه أحد، وتَحمِلُ فوقَ كَتِفَيك عتادًا ليس لك، لتُقاتِل أقوامًا أقنعتكَ وسائلُ إعلامِكَ الفاسدة وسياسيّوك الكاذبون أنهم يكرهون زرقة عينيك وبياض بشرتك، لكن ليس من حقّك أن تُبالِغَ في الاحتفال وأنتَ تمرُّ فوق جثث الأطفال وأطلال المنازل في طريق العودة، لأنَّ الدماءَ وحدها لا تُعَدُّ دليلًا كافيًا على النصر. وإن عُدتَ سالمًا بوَشَمٍ فوق ذراعيك وذاكرةً مُلطّخة بالصرخات المُتوسّلة، فلن تستطيعَ خمورُ العالم أن تُطفئَ في عينيك شُعلةَ حقيقةٍ مُرّة، وهي أنَّكَ مُجرّد قاتلٍ مأجورٍ وظّفه قادةُ جيشه ليفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل. لن تستطيعَ، مهما بَلَغتَ من قسوة، أن تتجاهلَ حضنًا دافئًا من عدوٍّ قضى شطر يومه في إعدادِ وَجبَةِ مَرَقٍ لك. هل أراد “جوشوا سيفتيل” أن يقولَ شيئًا من ذلك حين قرّرَ أن يُخرِجَ فيلمه الوثائقي المُدهش “غريبٌ عند البوابة” (stranger at the gates)؟ وهل يُمثّلُ ترشيحُ الفيلم لجائزة الأوسكار تضامنًا مُعلَنًا مع المُستضعَفين في الأرض؟ أم إنّها مُجرّد دعاية رخيصة لقِيَمٍ غربية ثبت زيفها وسقط نصيفها منذ عقود؟

في بداية الفيلم، يحزمُ “ريتشارد ماك”، رجل المارينز العائد من الحرب أخيرًا، حقائب غضبه، ويمضي بوجهٍ مُحتقنٍ وعينَين زائغتين نحو أقربِ مركزٍ إسلامي في مدينة مونسي. لم يكن الرجل يتوقّعُ أن يعود من حربه ضد المسلمين “المتطرّفين” في العراق وأفغانستان ليجد ولاية إنديانا الأميركية شبه محتلة من قبل العدو. فها هي ابنته تجلسُ جنبًا إلى جنبٍ مع أطفالِ المُسلمين في المدرسة، وها هي مُكبّرات الصوت تصدح بالآذان خمس مرات كل يوم وكأن حربًا لم تكن. لم يَتَخَيّل ماك أن تتحوّلَ الجماجِمُ التي ظلت هدفًا لسبابته عقودًا إلى رؤوسٍ صديقة بكلِّ هذه البساطة. ولهذا، قرر الرجل أن يُنحّي السياسة جانبًا ليواصل حربه “المُقدّسة” ضد أعداء الوطن ولتذهب الديبلوماسية إلى الجحيم. ذهب ماك إلى المسجد ليبحث عن مكانٍ آمنٍ يواري فيه قنبلة ستُخَلِّص المنطقة من الطاعون الإسلامي المُتفشّي.

كان المسجدُ يكتظُّ بالمُصلّين الذين تجمّعوا لأداء صلاة العصر، لكنَّ عينَي جومو ويليامز، الأميركي من أصولٍ أفريقيّة، والذي تعرّضَ جدّه للشنق والإخصاء من قبل البيض، ظلّتا تراقبان تحرّكات ريتشارد عن كثب. فقد أدرك الزنجي المُسلِم أن جندي المارينز لم يأتِ للصلاة، بل لحاجةٍ في نفسه، وأنه ينبغي عليه أن يمنعه من تنفيذها مهما كلّفه الأمر. نهض جومو من فوره ليحتضن ريتشارد دون داع، ويُرَحّب به كما ينبغي، ويأخذه في جولة تفقدية للتعرّف على مرافق المركز الإسلامي. لكن عضلات ريتشارد المفتولة والوشم فوق كتفه الأيمن وظهر كفه الأيسر جعلت بعض الناس يتخلّف عن أداء الجماعة خوفًا وريبة. واستمرّت زيارات صاحبنا ثمانية أشهر أو يزيد، حتى قرّر ذات يومٍ أن يُعلنَ اعتناقه للإسلام. لم يكن أحدٌ يتوقّع مثل هذه النهاية الموغلة في طوباويتها، لكن هذا بالفعل ما حدث. وأخيرًا عاد ريتشارد ماك إلى بيته بوجهٍ غير الذي جاء به.

“بيبي بهرامي” هي إحدى الشخصيات التي توقّفَت أمامها الكاميرا طويلًا، حتى أطلَق عليها سيفتيل لقب “الأم تيريزا من الجالية المسلمة”. تعرّضت أسرة بيبي للتهجير من أفغانستان في العام 1979، واضطرّت إلى الإقامة في مخيمات اللاجئين في باكستان مدة ست سنوات قبل أن تتزوّجَ وتهاجر إلى الولايات المتحدة. وكانت السيدة بهرامي من المؤسّسين الأوائل لمركز ميامي الإسلامي، وكانت تؤوي الغرباء وتغسل ثيابهم وتطهو طعامهم. كما إنَّها كانت سببًا رئيسًا في اعتناق ريتشارد للإسلام. ففي الوقت الذي كان ماك يعتقد أن المسلمين في المسجد يتربّصون به الدوائر، كانت المرأة النموذج تنسج خيوطها الرحيمة حول روحه المُعذّبة وتدعو له في صلاتها، وأخيرًا قررت أن تدعوه للغداء. وفي بيت “الأم تيريزا” المُسلمة، تعلم ريتشارد على أصول الفكر الإسلامي السمح، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

لم يكن أحدٌ يتخيّلُ أن يتحوَّلَ جندي المارينز الشرس إلى حمامة سلام تدعو إلى نبذ العنف وحماية الضعيف ونصرة المظلوم. ولم يتخيَّل أحدٌ، ولا حتى ريتشارد نفسه، أن يُصبِحَ عدوُّ المسلمين اللدود مديرًا للمركز الإسلامي الذي ذهب ليُفخّخه ذات جمعة ويقتل الطائفين والعاكفين والركع السجود فيه. لو كان مخرج الفيلم عربيًّا لاتهمناه بالمبالغة والتحيّز، لكن أن يكون المخرج يهوديًا، فهذا يدعو لمراجعة كافة التحيّزات العنصرية ضد الإسلام ومُعتنقيه. وقد يكون للتحيّزات العنصرية التي تعرَّضَ لها جوشوا خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي أكبر الأثر في شخصيته المُتعاطفة مع المُستضعَفين والأقلّيات داخل أميركا وخارجها، ولذلك فهو يرى في قصّة “ريتشارد ماك” انفراجة حقيقية ونصرًا مؤزرًا ضد التحيّزات العنصرية التي تفشّت في المجتمع الأميركي أخيرًا. يقول جوشوا سيفتيل: “طالما أن أمرًا كهذا قد حدث، فكل شيءٍ مُمكن. لقد قدّموا لنا مُخطَّطًا للقيام بشيءٍ مُشابِه”.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى