سوريا، إيران وروسيا: الثُلاثي المُشاغِب

لكلٍ من موسكو وطهران في سوريا أهدافٌ مختلفة ولكنها متكاملة – وليست متضاربة – الأمر الذي جعلهما يقومان معًا بدعم نظام بشار الأسد على جبهات متعددة مع ترسيخ وضعهما في سوريا وخارجها.

الرئيسان ابراهيم رئيسي وبشار الأسد: تعاون استراتيجي طويل في كل المجالات

آنا بورشيفسكايا*

تتمتّع كلٌّ من روسيا وإيران بعلاقاتٍ عميقة ومتعددة الأوجه وطويلة الأمد مع سوريا. خلال الحرب الباردة، برزت دمشق باعتبارها الحليف الأكثر ولاءً للاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط، وعادت العلاقة الحيوية بين الدولتين في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حيث سعى فلاديمير بوتين إلى إعادة ترسيخ التفوّق الإقليمي لموسكو. في غضون ذلك، قلبت الثورة الإيرانية في العام 1979 حالة طهران الموالية للولايات المتحدة. كانت سوريا حافظ الأسد أول دولة عربية تعترف بجمهورية إيران الإسلامية والدولة العربية الوحيدة (باستثناء ليبيا) التي دعمت إيران خلال حربها التي دامت 8 سنوات ضد العراق (1980-1988). في العقود اللاحقة، كثفت طهران علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع دمشق.

بشّرت الحرب الأهلية السورية بعصرٍ جديد في علاقات موسكو وطهران مع دمشق حيث استخدمت الدولتان تدخلّهما العسكري في الصراع لتعميق ترسّخهما في سوريا. وبينما جعل الغزو الأوكراني موسكو تعتمد على الدعم العسكري الإيراني، بدلًا من أن يؤدي إلى أيِّ فك ارتباط عن سوريا، فإن إعادة التشكيل الاستراتيجي هذه قد كثفت التعاون الأمني الإيراني-الروسي بشكلٍ عام، وفي سوريا بشكل خاص. لا بدَّ أن تكون لهذا الأمر تداعيات بعيدة المدى ليس فقط على “الحرب الهادئة” الإسرائيلية-الإيرانية المستمرة منذ عقد من الزمن في سوريا ولكن على الشرق الأوسط بأكمله.

روسيا وإيران وسوريا

صعود بشار الأسد إلى قيادة سوريا بعد وفاة والده في حزيران (يونيو) 2000 رفع العلاقات السورية-الإيرانية إلى آفاق جديدة مع انخراط طهران في قضايا أمنية ودفاعية حساسة واستخدام الأراضي السورية لنقل الأسلحة إلى وكيلها اللبناني “حزب الله”. في العام 2004، وقّعت دمشق وطهران اتفاقية تعاون استراتيجي، تمت ترقيتها إلى اتفاقية دفاع مشترك بعد ذلك بعامين، وتبعها اتفاق تعاون عسكري آخر في آذار (مارس) 2007. مع وصول مخالب إيران إلى عمق المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية في سوريا، برزت دمشق كركيزة أساسية لـ “محور الممانعة” الذي تقوده طهران والمناهض للغرب (المناهض للولايات المتحدة بشكل رئيس) والمعادي لإسرائيل، جنبًا إلى جنب مع “حزب الله” و”حركة حماس”.

كانت البصمة الروسية أخفّ لكنها لم تكن أقل أهمية. في سعيه إلى عكس الانسحاب الجُزئي لموسكو بعد الاتحاد السوفياتي من الشرق الأوسط بحلول العام 2005، حقق فلاديمير بوتين انفراجًا مع دمشق. في كانون الثاني (يناير) من ذلك العام، قام بشار الأسد بأول رحلة له إلى موسكو، حيث حصل على اتفاق لشطب 73 في المئة من ديون الحقبة السوفياتية البالغة 13.4 مليار دولار أميركي وتنشيط تدفق الأسلحة والمواد الحربية، والتي انخفضت إلى حد كبير خلال العقدين السابقين. ونتيجة لذلك، استحوذت موسكو على 78 في المئة من مشتريات الأسلحة السورية في 2007-2012 التي بلغت حوالي 20 مليار دولار. خلال سنوات الحرب الباردة، عندما قدمت موسكو مساعدات عسكرية وتدريبًا وصيانة كبيرة للجيش السوري، كان التزاوج بين الروس والسوريين سائدًا إلى حد بعيد. لدرجة أن الآلاف من المواطنين الروس لا يزالون يعيشون في سوريا مع اندلاع الحرب الأهلية حيث صار  كثيرون في الأجهزة الأمنية السورية قادرين على التحدث باللغة الروسية.

الحرب الأهلية السورية

قدّمَت طهران دعمًا ثابتًا ومستمرًّا للأسد على جبهاتٍ متعددة منذ بداية الانتفاضات المناهضة للنظام في آذار (مارس) 2011، ولكن بتكلفة باهظة. مع توسع الأزمة سريعًا إلى حربٍ أهلية كاملة، زوّدَ الإيرانيون دمشق بكمياتٍ كبيرة من النفط، بمتوسط مليوني برميل شهريًا في 2013-2018، مع الدفع المؤجل، والتي غطت معظم احتياجاتها من النفط الخام. كما زود الإيرانيون الجيش السوري (و”حزب الله”) بالسلاح في انتهاك لقرارات الأمم المتحدة ونشروا الآلاف من القوات من الجيش الإيراني النظامي والحرس الثوري الإسلامي، وكذلك من الميليشيات الشيعية العميلة، ولا سيما “حزب الله”.

لا تزال التكلفة المالية الدقيقة للتدخل الإيراني غير واضحة، لكن في آذار (مارس) 2020، كشف عضو في لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني أن طهران أنفقت ما بين 20 إلى 30 مليار دولار في سوريا منذ العام 2011. كما قدم تقريرٌ صدر في العام نفسه عن مجموعة عمل إيران التابعة لوزارة الخارجية الأميركية رقمًا أقل نوعًا ما يزيد عن 16 مليار دولار تم إنفاقها على مدى السنوات الثماني الماضية على “دعم نظام الأسد وشركاء إيران ووكلائها الآخرين في سوريا والعراق واليمن” – حوالي 5 في المئة من موازنة إيران السنوية. إلى جانب التسلل إلى الجهاز العسكري والأمني السوري، بعدما خفت حدة القتال في السنوات الأخيرة، شرعت طهران في استراتيجية تشيّع منهجية للمجتمع السوري، وذلك لدمج الدولة في “الهلال الشيعي” المُنشَأ حديثًا والممتد من إيران عبر العراق وسوريا، ولبنان حتى البحر الأبيض المتوسط.

كان تورّط موسكو في السنوات الأولى من الصراع أكثر محدودية من مشاركة طهران ولكنه لم يكن أقل أهمية. لقد رمي الروس بثقلهم منذ البداية خلف نظام الأسد المُحاصَر، وقاموا بتسليح الجيش السوري وسعوا جاهدين لدعم اقتصاد دمشق المتدهور من خلال الموافقة على الحصول على النفط الخام مقابل المنتجات النفطية المُكَرَّرة ومن خلال تقديم قروضٍ لدرء الإفلاس السوري. بشكل حاسم، قدمت موسكو دعمًا سياسيًا وديبلوماسيًا حيويًا لم يتمكّن النظام المعزول دوليًا في طهران من تقديمه، ولا سيما منع الانتقام العسكري الغربي بعد أن قتل نظام الأسد مواطنيه بالغاز في آب (أغسطس) 2013. على مر السنين، منع الكرملين مرارًا وتكرارًا قرارات مجلس الأمن الدولي التي استهدفت نظام الأسد وترسيخ نفسه كوسيط قوة بين دمشق والمجتمع الدولي. لم تُكلّف هذه الجهود موسكو سوى القليل، لكنها مع مرور الوقت أعادت تشكيل العملية الديبلوماسية بطريقة تتفق مع أهدافها السياسية والعسكرية.

بعد أن تدخّلت عسكريًا في أيلول (سبتمبر) 2015 لإحباط سقوط الأسد الوشيك، سعت موسكو إلى أن تكون لها بصمة خفيفة نسبيًا تُركّز بشكل أساسي على حملة جوية وزيادة الوجود البحري. للقيام بذلك، وسّع الروس ميناء طرطوس الشمالي الشرقي وقاعدة حميميم الجوية وأدخلوا صواريخ أرض-جو “أس -300″، ولاحقًا صواريخ “أس -400” الأكثر تقدمًا، إلى سوريا. كانت القوات البرية الروسية تتكوّن أساسًا من القوات الخاصة التي ركّزت على إعادة بناء القوات المسلحة السورية وتدريبها وتقديم المشورة لها (إلى جانب القيام بمهام استطلاع خاصة بها). في هذا الإطار، في العام 2013، أنشأت موسكو وحدة “قوّات النمر”، والتي تطورت بحلول العام 2019 إلى الفرقة الخامسة والعشرين لمكافحة الإرهاب، وكذلك لواء الاقتحام السادس عشر.

استراتيجية “الإجراء المحدود” التي صاغها فاليري غيراسيموف، رئيس الأركان العامة الروسية، استندت ضمنًا إلى فكرة أن طهران ووكلاءها سيقومون بمعظم القتال، ما يسمح لموسكو الحفاظ على انخفاض التكاليف من حيث الدم والأموال. في أي وقت من الأوقات، لم يبق أكثر من 4000-5000 جندي روسي في سوريا، بما في ذلك مقاتلو مجموعة فاغنر، وهي شركة عسكرية خاصة لها صلات بوزارة الدفاع الروسية، والشرطة العسكرية على الرغم من تناوب أكثر من 60 ألف جندي بمرور الوقت، دخولًا وخروجًا، وتلقى خبرة وتدريب عسكريَين قيِّمَين. احتفظت موسكو أيضًا بنفوذها الثقافي مع وزارة التعليم السورية التي أضافت اللغة الروسية كلغة أجنبية ثانية اختيارية (بعد الفرنسية والإنكليزية) في المدارس في أوائل العام 2014 وعرض التلفزيون السوري الحكومي نشرات إخبارية باللغة الروسية.

في حين أن التكلفة المالية للمشاركة العسكرية لموسكو كانت مماثلة لتلك الخاصة بطهران من حيث القيمة المطلقة (تقدر بنحو 2 ملياري دولار سنويًا)، فقد كانت رقمًا أصغر مقارنة بموازنة الدفاع الأكبر لروسيا والاقتصاد الأكبر بشكل عام. بالإضافة إلى ذلك، كانت الخسائر البشرية الروسية أقل بكثير. على عكس الآلاف من الأرواح التي أُزهِقَت من الإيرانيين والميليشيات الشيعية العميلة، فإن أكبر خسارة في الأرواح لموسكو تضمنت حادثة غامضة في شباط (فبراير) 2018 عندما انتهك مئات عدة من مقاتلي مجموعة فاغنر االإتفاق الروسي-الأميركي لعام 2015 لتفادي التضارب  حيث عبروا نهر الفرات من المنطقة التي تسيطر عليها روسيا إلى الجانب الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة. أسفرت المعركة التي تلت ذلك عن خسارة ما يصل إلى 300 مقاتل روسي ومؤيد لروسيا.

بشكلٍ عام، اتبعت موسكو وطهران أهدافًا مختلفة ولكنها متكاملة – وليست متضاربة – مما استلزم دعم نظام الأسد على جبهات متعددة مع ترسيخ موقفهما في سوريا وخارجها.

التنافس على مستقبل سوريا

بعد أن ركّزتا أنظارهما على الموارد الاقتصادية السورية، بدأت موسكو وطهران التنافس على عقود النفط والغاز والفوسفات والاتصالات السلكية واللاسلكية والزراعة والسياحة والعقارات وغيرها من المجالات مع انحسار القتال. لدعم تحالفاتهما المزدهرة مع الشركات المحلية، نقل بعض التقارير أن كلًا منهما أنشأ مجلس أعمال خاصًا.

في حين أنه من الصعب تقييم إلى أيِّ مدى تعكس هذه المنافسة خلافًا استراتيجيًا أعمق، تشير المعلومات المتاحة إلى أن الروس حصلوا على صفقات أفضل من الإيرانيين. في حزيران (يونيو) 2018، على سبيل المثال، ضمنت شركة “ستروي ترانس غاز” (Stroytransgaz) الأغلبية في صناعة الفوسفات في سوريا. كانت شركة “ستروي ترانس غاز” في الأصل تابعة لشركة غازبروم الروسية التي تديرها الدولة، وهي الآن تحت سيطرة الأوليغارشي جينادي تيمشينكو، الذي فرضت عليه وزارة الخزانة الأميركية عقوبات بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014. سواء كان ذلك يعكس اتجاهًا أوسع لإخراج طهران من السوق كما ادعى بعض المراقبين أو مجرد تفضيل سوري لمرة واحدة لشركة روسية على منافساتها الإيرانية، يبدو أن موسكو تكتسب نفوذًا أكبر في المدى الطويل في سوريا من خلال الوصول الاقتصادي وتأثير القوة الناعمة مثل اللغة والبرامج الأخرى. إلّا أن هذه المنافسة لم تمنع التعاون الاقتصادي الروسي-الإيراني متى كان ذلك يناسب احتياجاتهما. على سبيل المثال، في أواخر العام 2018، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على شبكة كانت طهران تزود دمشق من خلالها بالنفط عبر شركات روسية عدة.

ومع ذلك، من غير المرجح أن تغادر موسكو وطهران سوريا طالما أن الأسد في حاجة إليهما، ولكن كلاهما يريان مستقبلًا لأنفسهما في البلاد ويهتمان أكثر بتقسيم خلافاتهما بدلاً من الصدام بينهما. وعلى الرغم من أن الروس لا يشاركون إيران الهدف الإيراني المتمثل في الهلال الشيعي – بل وربما لديهم مخاوف بشأن التأثير الديني المتزايد على نظام دمشق العلماني – إلّا أن موسكو تقليديًا لم تكن لديها أي مخاوف بشأن التعاون مع إيران الشيعية ضد الجماعات السنية المتطرفة على الرغم من حقيقة أن معظم المسلمين في روسيا هم من السنّة. بالنسبة إلى الأسد، فإن نفوذ موسكو يوفر بديلًا من رغبة طهران في جعل سوريا دولة عميلة ويسمح له لعب أحدهما مقابل الآخر إذا لزم الأمر.

عامل أوكرانيا

في الأشهر الأولى من غزو موسكو لأوكرانيا، سارع بعض التقارير للتكهّن بأن القوات الروسية ستنسحب من سوريا لدعم حملة أوكرانيا، وهذا سيعني بأن قوات الحرس الثوري الإيراني و”حزب الله” سيستوليان على القواعد الروسية التي سيتم إخلاؤها. في الواقع، لم يحدث انسحاب له مغزى للقوات الروسية: فقط إعادة انتشار تكتيكية لبعض مجموعة فاغنر وربما بعض وحدات الشرطة العسكرية. إذا كان هناك أي شيء، فقد بدا أن عدوانية موسكو في سوريا تتزايد في أعقاب الغزو الأوكراني كما يتضح من بين أمور أخرى الهجمات المُبَلَّغ عنها على التحالف بقيادة الولايات المتحدة والمتمردين المدعومين منها. وبينما تم سحب بعض بطاريات صواريخ “أس-300” من شمال غرب سوريا، فمن غير المرجح أن يكون لهذه الخطوة تأثير عملياتي كبير حيث احتفظت موسكو حتى الآن بصواريخ “أس-400” الأفضل في سوريا.

سياسيًا، حافظت موسكو على سياستها طويلة الأمد تجاه الأزمة السورية. في حزيران (يونيو) 2022، أكد المبعوث الخاص لبوتين إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، أن “التسوية” السورية تظل أولوية بالنسبة إلى موسكو وأن مصلحتها في البلاد في كامل قواها. في الواقع، في الشهر التالي، انتزعت موسكو تنازلات كبيرة لنفسها ولنظام الأسد مقابل موافقتها على عدم استخدام حق النقض ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2642، الذي نص على تمديد المساعدات الإنسانية عبر الحدود لمدة 6 أشهر إلى أجزاء من سوريا لا يسيطر عليها النظام (بدلًا من التمديد الأصلي لمدة عام واحد).

في اجتماع عقده في 5 آب (أغسطس) 2022 مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في منتجع سوتشي، سعى بوتين إلى إقناع ضيفه بإعادة الاتصال المباشر مع الأسد. وبينما شعر أردوغان بأن مثل هذه الخطوة سابقة لأوانها، فقد رضخ تدريجًا لهذا الاحتمال. في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)، أعلن أن التطبيع مع سوريا يمكن أن يتبع ذوبان الجليد في العلاقات التركية-المصرية، الذي بدأ بعد لقاء أردوغان مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في حفل افتتاح كأس العالم لكرة القدم 2022 في قطر، وهو أول لقاء بينهما منذ 2013. في وقت سابق من ذلك الشهر، زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عمّان حيث ناقش مع مضيفيه الأردنيين إمكانيات إنهاء الصراع وإعادة دمج سوريا في جامعة الدول العربية. ووفقًا لتقارير استخباراتية، قبل الزيارة، اتخذت موسكو خطوات لطمأنة عمّان بأن حرب أوكرانيا لن تخلق فراغًا خطيرًا في جنوب سوريا. ولهذه الغاية، كثف الروس دوريات الشرطة العسكرية على طول الجانب السوري من الحدود لمنع ترسيخ الميليشيات الشيعية في المنطقة

ليس من المستغرب أن يدعم الأسد غزو أوكرانيا كما أيد ضم شبه جزيرة القرم قبل ثماني سنوات. كانت دمشق من بين الحكومات القليلة جدًا التي دعمت موسكو ضد إدانة الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع تقريبًا للغزو في آذار (مارس) وتشرين الأول (أكتوبر) 2022. اعترف السوريون أيضًا باستقلال منطقتَي دونيتسك ولوهانسك، واتصل الأسد ببوتين بعد الغزو لتهنئته حول ما وصفه بـ “تصحيح التاريخ وإعادة التوازن إلى العالم الذي فقدته [روسيا] بعد تفكك الاتحاد السوفياتي”. وقد قال الأسد لبوتين: “تتحمل الدول الغربية مسؤولية الفوضى وإراقة الدماء … حيث تستخدم هذه الدول أساليبها القذرة لدعم الإرهابيين في سوريا والنازيين في أوكرانيا وفي أنحاء مختلفة من العالم … روسيا لا تدافع عن نفسها فحسب، بل تدافع عن العالم و [مبادئ] العدل والإنسانية”.

ولدعم هذا الرأي، نظم نظام الأسد العديد من المسيرات الموالية لروسيا في اللاذقية وطرطوس ودمشق حيث أعرب المشاركون عن دعمهم لروسيا وهاجموا الحملة الإعلامية الشرسة بقيادة الولايات المتحدة [التي] تهدف إلى تشويه صورة روسيا التي تسعى من خلال عمليتها العسكرية إلى حماية المدنيين والحفاظ على أمنها واستقرارها.

من جانبها، قامت طهران بفرش السجادة الحمراء لبوتين في تموز (يوليو) 2022، بعد أيام من زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الشرق الأوسط لعقد اجتماعات مع قادة إسرائيليين وعرب. كانت هذه أول رحلة للرئيس الروسي خارج الاتحاد السوفياتي السابق منذ غزو أوكرانيا، وسلطت الضوء على الأهمية التي يوليها لتحسين العلاقات مع الجمهورية الإسلامية. خلال الزيارة، التقى بوتين بالرئيس إبراهيم رئيسي والمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، اللذين دعما علنًا الغزو الروسي، وقالا لبوتين “إذا لم تكن قد اتخذت المبادرة بنفسك، لكان طرف آخر أخذ زمام المبادرة وتسبب في الحرب”.

خلاصة

تعتبر كلٌّ من موسكو وطهران، لأسباب مختلفة، ترسيخهما في سوريا وسيلة لتحقيق غايات أوسع. بالنظر إلى أهمية دمشق في تحقيق طموحات آيات الله في الهيمنة، فقد فاقت محاسن تورّطهم في سوريا الثمن الباهظ. بالنسبة إلى موسكو، كان التوازن العام للمشروع السوري أكثر تعقيدًا. مع السماح بتعزيز الوجود العسكري الروسي في شرق البحر الأبيض المتوسط، لم تكن العلاقات مع سوريا هدفًا في حد ذاته للكرملين، بل كانت وسيلة لصد النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة – كما كان الغزو الأوكراني. في الواقع، يمكن القول إن التدخل السوري ساعد على إطلاق الغزو الأخير. لسبب واحد، اعتبرت موسكو سوريا ساحة تدريب للعمليات المستقبلية، وقد عزز ترسيخها العسكري في شرق البحر الأبيض المتوسط موقعها في البحر الأسود. من ناحية أخرى، وربما الأهم، فشل الغرب في جعل بوتين يدفع ثمن التدخل العسكري الثالث الناجح في أقل من عقد (بعد جورجيا في العام 2008 وشبه جزيرة القرم في العام 2014) عزز اعتقاده بأن الغرب لن يقف في طريقه لابتلاع أوكرانيا. وقد عزز انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان في آب (أغسطس) 2021 هذا الرأي أيضًا.

إذا أدت الحرب الأهلية السورية إلى توطيد العلاقات الاستراتيجية الروسية-الإيرانية على الرغم من الخلافات التكتيكية العرضية والتحديات التنسيقية، فإن حرب أوكرانيا قد نقلت هذه العلاقة إلى مستوى جديد تمامًا. مع سعي موسكو اليائس للحصول على دعم عسكري من طهران لإحياء مغامرتها الأوكرانية الفاشلة، كان الكرملين مستعدًا للتقديم إلى النظام الإسلامي، وفقًا للمتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، “مستوى غير مسبوق من الدعم العسكري والتقني الذي يحول علاقتهما إلى شراكة دفاعية كاملة”. لكن القضية الأوسع هي أن سنوات من عدم إعطاء الولايات المتحدة الأولوية لسوريا والرضوخ الضمني الأخير لنظام الأسد يسمح لهذا الديكتاتور، المُتَّهم بارتكاب أبشع جرائم الحرب، وحلفائه المارقين بالخروج منتصرين من الحرب الأهلية السورية التي استمرت عقدًا من الزمن. قد يقنع هذا الأمر خصوم الولايات المتحدة، الذين يشعرون بالفعل بالارتباك بسبب إطالة أمد حرب أوكرانيا إلى أجل غير مسمى، بأن إيجابيات تحدي واشنطن، في المدى الطويل، تفوق السلبيات.

على الرغم من عدم وجود الكثير الذي يمكن لواشنطن فعله للتأثير في الوضع السوري الداخلي، إلّا أنها تستطيع مع ذلك، معاقبة الكيانات الإيرانية التي توفر النفط لنظام الأسد ومواجهة محاولات “حزب الله” لاستيراد الطاقة الإيرانية إلى لبنان، وهو مخطط ينطوي على عبور الطاقة في سوريا ويحتمل أن يستفيد منه نظام الأسد. وفي الوقت نفسه، يجب على الغرب البحث عن بدائل لحق النقض الروسي في مجلس الأمن عندما يتعلق الأمر بالمساعدات الإنسانية لسوريا، ليس فقط بسبب المخاوف الإنسانية ولكن بسبب ثغرة يمكن أن تُمكّنَ الأسد من خلال مشاريع الطاقة.

في ما يتعلق بموسكو، يجب على الغرب رفع تكاليف الغزو الأوكراني على جبهات متعددة لضمان انتصار كييف في الحرب، الأمر الذي سيؤثر بدوره في موقع موسكو الاستراتيجي في سوريا وشراكتها مع طهران.

  • آنا بورشيفسكايا هي زميلة بارزة في برنامج مؤسسة “Diane and Guilford Glazer” حول منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ومؤلفة كتاب: “بوتين في سوريا: السياسة الخارجية الروسية وثمن غياب أميركا”، صدر في العام 2021.
  • كُتِبَ هذا المقال بالانكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى