من عيونهم في فيع إِلى أَيديهم في صُوْر

هنري زغيب *­­­

مرَّتَيْن هذا الأُسبوع خيَّطْتُ الساحلَ اللبناني شَمالًا وجَنُوبًا، وكانت مُتْعةً أُعـطِــيْــتُــها أَن أَتنشَّقَ شمس لبنان الوطن حِيال البحر، بعيدًا عن الضباب الأَسْوَد الخانق في فضاء لبنان الدولة التي تهشِّمُها سُلْطةٌ عقيمةٌ هجينة.

  1. شَمالًا: لبَّيْتُ دعوة مدرسة “سَابِس” في فيع (الكُورة/شمال لبنان) إِلى محاضرة للصفوف العليا من تلامذتها، في سياق أَنشطةٍ لاصفِّيةٍ للثقافة العامة، وَفْق مبادئَ تربويةٍ راقيةٍ تنتهجُها المدرسة دوريًّا، كما شرحَت لي مديرتُها السيدة نبيلة معلوف. وفيما أَنا أَتكلَّم في باقة بهيجة من التلامذة، كان يعتريني شعوران: أَوَّلُ فرِحٌ، ما سمعتُ في عيونهم من اقتبالٍ عطشٍ ما كنتُ أَرويه لهم عن تراث لبنان وأَعلامه ومعالِمه، والآخَرُ قلِقٌ، لِما لَمسْتُهُ في أَسئلةٍ منهم تواقةٍ إِلى مزيد، لأَن ساعات المنهج الرسمي لا تُتيح لهم أَيَّ فسحةٍ ثقافيةٍ خارجَ الكتاب المدرسي المحدودِ النصوص والتمارين ضمْن تلك الساعات المقرَّرة. وهذا نقْصٌ مؤْذٍ في مسيرة تلامذتنا الذين يدخلون عتَبة الجامعة غيرَ مزوَّدين بثقافة عامة، ويَخرجون من باب الجامعة إِلى بوابة المجتمع ضئِيلي المعرفة، محدودين بحصَصهم على المقاعد المدرسية والجامعية. وما عرفْتُهُ لاحقًا من انطباع تلامذة “سابِس”، ورغبتِهم أَن تتكرَّر هذه اللقاءَات الثقافية العامة، أَدركتُ كم ناشئَتُنا في حاجة إِلى نهل العلْم بتراثنا والتزوُّد من الغذاء المعرفي، حتى تكتملَ دائرة التعَلُّم بالتثقُّف، فيكونَ الزادُ ذُخرًا نابضًا في ذاكرتهم لا مجرَّد حدَثٍ مدرسي للذكرى.

مغتبطًا كنتُ من ذاك اللقاء في “سابِس” فيع. وفيع تعني لي فؤَاد سليمان. وفي طريق عودتي مرورًا بضريحه، أَنصَتُّ إِلى خَيَالِ شاعرٍ هائمٍ بحبيبته جوزفين، خطَّ لها في الكتُب وفي الزمان ملامحَ عشقٍ خالدةً على أَصداءِ درب القمر.

  1. جَنوبًا: لبَّيْتُ دعوةَ السفيرة السيدة مهى الخليل الشلبي إِلى لقاءٍ في صُوْر مع أَعضاء “جمعية محتَرَفات صُوْر” وضيوف آخرين، أُحادثهم “كيف نَبْني الوطن من خلال الحفاظ على التراث”. سوى أَن محاضرتي كانت كأَنها كلامٌ نظَريٌّ تؤَدِّيه عمليًّا أَيديهم المباركة لِما عاينْتُهُ باعتزازٍ وطني في السبعة المحترفات التي جالت بي عليها الدكتورة مهى، في “القرية الـحِرَفيَّة” التي أَنشأَتْها قبل خمس سنوات في حضن بستان الليمون خاصَّتِها، حتى أَنني، إِذ دخلتُ من بوابة “القرية” التي تعتمِرُ العلَمَ اللبناني مزهوَّةً به يرفرف عاليًا، خِلْتُني في عالَم آخر ومناخ آخر وجوٍّ آخر. هي ذي المحترفات: كلُّ محترف في بناء مستقل، وكل بناء ذو لون مختلف من مناخ التراث الفينيقي والحروف الفينيقية. هذا محترف الفخاريات، هذا محترف الزجاج المنفوخ، هنا محترف الخياطة، هنا محترف الطباعة على القماش، هنا محترف التلوين على الفخار، وأَجول بينها تطالعني وجوه باسمة تهنأُ في فرص العمل المبارك هيَّأَتْها سيدة “القرية” لتمكين المرأَة وتأْمين العمل المستدام، هي الناذرةُ عملَها منذ سنوات للحفاظ على تراث صُوْر الفينيقي، تنشط له بين لبنان وباريس (الأُونسكو) وسائر بلدان الشاطئ الفينيقي والموانئ الفينيقية، تأْليفًا وندواتٍ ومؤْتمراتٍ ومنشوراتٍ، حتى لهي سفيرة فينيقيا الأَمس في عالَم اليوم.

مهى الخليل الشلبي، ذاكرةٌ لبنانية نابضة نحو غدٍ يشعُّ ساطعًا من أَرض لبنان التاريخ إِلى فضاء الوطن اللبناني في العالَم.

مرَّتَيْن إِذًا هذا الأُسبوع خيَّطْتُ الساحل اللبناني شَمالًا وجَنُوبًا، وفي بالي أَن أَعود إِلى فيع كي أَفتح لتلامذة “سابِس” صفحاتٍ من فؤَاد سليمان، وإِلى صُوْر كي أَعيشَ، أَكثرَ بعد، عبارةَ المؤَرِّخ بول موران الشهيرة: “جاء يومٌ كانت فيه صُوْر وصيدا كلَّ تاريخ العالَم”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى