نووي إيران: كلماتٌ مُتقاطِعة

محمد قواص*

لا يعتقد وليام بيرنز مدير وكالة المخابرات المركزية ( CIA) أن إيران بصدد تحويل برنامجها النووي باتجاه صناعة قنبلة نووية. تكاد تصريحات المسؤول الأميركي تشبه تصريح أي مسؤول في إيران أعاد وكرّرَ خلال العقود الأخيرة النفيّ تلو النفيّ لأيِّ خططٍ لامتلاك سلاح الدمار الشامل هذا بالاستناد إلى فتوى كان أصدرها المرشد علي خامنئي.

في 26 شباط (فبراير) الماضي قال بيرنز إن المرشد “لم يتّخذ قرارًا حتى الآن للحصول على السلاح النووي، والتهديد النووي لا يزال بعيدًا”. لكنه أضاف، في تمرين الكلمات المتقاطعة، أن البرنامج النووي يتقدم “بوتيرةٍ مقلقة”.

شيءٌ ما يدفع رأس أشهر وكالة مخابرات في العالم إلى تبرئة إيران من شبهة السعيّ لاقتناءِ قنبلةٍ نووية. شيءٌ سياسي يتقدّم في زاويةٍ ما تُقلّلُ من أجله واشنطن مُسبَقًا من أهمية تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 28 شباط (فبراير) بشأن العثور على جُزيئات تُثبتُ أنَّ إيران قد خصّبت اليورانيوم بنسبة 83.7 في المئة في منشأة فوردو. ولمن تختلط عليه تلك النسب فإن اتفاقَ فيينا لعام 2015 (المعروف رسميًا ب “خطة العمل الشاملة المشتركة”) لا يسمح لإيران بتجاوز نسبة 3.67 في المئة.

ولئن من المعروف أن صناعة القنبلة المدمِّرة تحتاج إلى نسبةِ تخصيبٍ تصل إلى 90 في المئة، فإن بيرنز لم يلتفت إلى المُنجَزِ في مستويات التخصيب وبنى موقفه على “إيمانٍ” بغيابِ خططٍ من هذا النوع عن أجندة رأس السلطة في إيران.

في الكلمات المتقاطعة أن إيران تقول إن نسبة التخصيب المُكتَشَفة جرت عن غير قصدٍ وبسبب خطَإٍ تقني. لم تنفِ الوكالة هذا الاحتمال وذهب مدير الوكالة رافائيل غروسي باتجاه طهران لعقد محادثات لتبيان الخيط بين المصادفة والمخطط في برنامج إيران، ويكاد يكون مناشدًا طهران الشفافية والتعاون.

للمفارقة تُعبّرُ أوروبا عن قلقٍ لا يعتري الإدارة في واشنطن. تُعربُ فرنسا وبريطانيا وألمانيا عن غضبٍ مما اكتُشِفَ من مستويات تخصيب وتطالب، وفق ما نقلته الوول ستريت جورنال الأميركية، بقرارٍ يلوم إيران على فعلتها داخل مجلس المحافظين التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية. المصادر عينها تذكر أن واشنطن لا ترى ضرورة لذلك، وتُعلّلُ هذا التريث بالدعوة إلى انتظار التقرير النهائي وتحقيقات الوكالة إضافة إلى انتظار نتائج زيارة مديرها غروسي إلى طهران.

هنا تبدو الولايات المتحدة متحفّظة عن أيِّ تصعيدٍ ضدّ إيران في وقتٍ تستقبل فيه مسؤولين إسرائيليين يأتون أساسًا لمناقشة أخطار البرنامج النووي وتنسيق الاستعدادات الإسرائيلية لردع القوة النووية الإيرانية المُحتَمَلة قبل ولادتها. ستستقبل واشنطن وفدًا إسرائيليًا رفيعًا يشمل وزير الشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، ورئيس مجلس الأمن القومي، تساحي هنغبي. بالمقابل يجول وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن على المنطقة حاملًا ملفات ليس بالضرورة أن يكون ملفُّ إيران أهمّها.

في تمرين الكلمات المتقاطعة تتناقض الإشارات والمصالح بين دول مجموعة الـ 5+1، لا سيما بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين. لا تبدو طهران قلقة أو معنية بتعدّدِ الرسائل الصادرة من واشنطن وبرلين وباريس ولندن، لا بل تُطلق رُزمةً من التسريبات والمواقف والآراء التي تبشّر بقرب التوصل إلى اتفاقٍ في فيينا يُعيدُ إنعاش ذلك الشهير الموقّع قبل 8 سنوات، فيما يتحدّث غروسي من طهران عن ودّ وتعاون وإيجابية وتفاؤل.

والواضح أن مُسَيّرات إيران التي انخرطت في الحرب في أوكرانيا إلى جانب روسيا لا تُشَوّش على المباحثات الجارية بهدوء بشأن الملف النووي، أو هكذا توحي طهران. تعيد واشنطن وتكرّر أنَّ لا خطط للعودة إلى المفاوضات في فيينا وسط تفاؤل إيراني مصاحب لمعلومات أممية وأخرى مخابراتية تؤكد باقتراب إيران من قنبلتها النووية وأن صناعتها باتت تحتاج إلى أيام بعدما كانت التقديرات تتحدّث عن أشهرٍ وسنوات قبل ذلك.

بيرنز قلق لكنه مطمئن إلى نوايا المرشد. هذا كلام الـ” CIA” في واشنطن. لكن للبنتاغون في واشنطن أيضًا رأيًا آخر. في 28 شباط (فبراير) أبلغَ كولن كال، وكيل وزير الدفاع الأميركي للشؤون السياسية، مجلس النواب الأميركي أن إيران يمكن أن تُنتِجَ ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية واحدة “في غضون 12 يومًا”.

شيءٌ ما كاذبٌ في تلك الحكاية. إيران على وشك الدخول إلى النادي النووي وقد لا يكون من المُستَبعَد استفاقة العالم على تجربة نووية. كل العواصم تنذر وتحذّر لكن كل ذلك لا يعني الذهاب إلى الصدام الكبير. حتى أن إسرائيل تبدو وكأنها باتت مستعدّة لهضم هذا الاحتمال رُغم كل التهويل والتهديد الذي تطلقه منابرها العسكرية والسياسية.

ستُقرّر الأجندة السياسية في هذه اللحظة الدولية الحرجة التفسير السياسي للتطوّر النووي. السياسة وحدها، تلك المُوحى بها من عواصم القرار الكبرى، ستقرر ما رآه وسمعه رفائيل غروسي في طهران وما لم يره ولم ينصت إليه. والسياسة هي التي تفسّر تصاعد قلق الترويكا الأوروبية مقابل هدوء وطمأنينة يُعبَّرُ عنهما في واشنطن هذه الأيام. شيءٌ ما مُرتبطٌ بالحرب في أوكرانيا يُربكُ لهجة العواصم من ملف إيران النووي ويجعل المعلومات حوله متضاربة غامضة تتحكم بها نزعاتٌ قابلة للتأويل والاجتهاد.

سيحمل غروسي من طهران “انطباعات” ستُقرّر ما إذا كان مجلس المحافظين في الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي سيجتمع الأسبوع المقبل سيُصدر قرارَ لَومٍ أو تأنيب ضد إيران. عادة، وعلى نسق مُمل، تخرج من إيران مواقف غاضبة من هذا الاحتمال، ذلك أن إحالة الملف من الوكالة إلى مجلس الأمن الدولي قد يحوّل عقوبات واشنطن إلى عقوبات أممية. أدانت الوكالة إيران قبل ذلك ولم تحوّل الملف إلى مجلس الأمن، ولا شيء يوحي أنها ستفعل هذه المرة. ثم حتى في حال تمّ ذلك فإن في مجلس الأمن “فيتو” روسي وصيني سيشل أي قرار أممي ينال من إيران.

توفّر حرب أوكرانيا هامش تحرّك أوسع لإيران. لن تُخاضَ حربٌ ضدها فيما الجهد الحربي الدولي منصبّ هناك. صارت مُسيّراتها تضرب في أوروبا على نحوٍ يفسّر قلق الأوروبيين. وبات وصولُ التخصيب إلى مشارف المستوى الذي ينتج قنبلة نووية خاضعًا لوجهات نظر بحيث لا ترى المخابرات المركزية الأميركية في الأمر خطرًا فيما يعلن البنتاغون أن القنبلة النووية على بُعدِ 12 يومًا. لا شيء في كل ذلك صادق، فما هو في السياسة إلّا… كلمات متقاطعة!

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى