ملامح الحُضُور في غياب نهاد نوفل

هنري زغيب*

ما كنتُ أَكتبُ عنه لأَنه صديقي، أَو مجرَّدُ صديق، بل لأَنَّ له في لبنان الإِداري بصماتٍ ساطعةً شهِدَ له بها أَقربون وأَبعدون، ممن احتذَوا نهجه في العمل البلدي، أَو حاولُوا أَن يكونوا في بلداتهم وبلدياتهم مرآةً لِما أَحب نهاد نوفل زوق مكايل (وهي أَيضًا بلدة الشاعر الياس أبو شبكة) فجعلَها مرآةَ نهضةٍ شعَّت منها كيفيةُ العمل البلدي لكل لبنان، ما جعل سعيد عقل يوسِّع الدائرة المحلية ويكتب: “يجب أَن نُنْتِجَ نُسَخًا من نهاد نوفل في سرايانا فنُنْقِذَها من العُقْم والبلادة”. وكان سعيد عقل أَيضًا، في احتفال خمسينية الياس أَبو شبكة على مدرج القصر البلدي في زوق مكايل، أَلْمح إِلى نهاد نوفل في أَبيات ثلاثة عن الزوق جاءَ فيها:

فَلا نُسَيْماتُ دَوحِ الزوق كُنَّ لظًى          والزوق همسُ صلاةٍ وابتهالُ دُعا

لَها من الوُلْد من علَّى بها، يدُهُ             إِلهةً قلتَها… مرمى ومُـختَرَعا

غوى اخضرارٍ غوى زهرٍ تشاؤُهما       يا زوقُ قُل فترى بابَ السما شُرعا

ولم يكُن يبالغ سعيد عقل. فنهاد نوفل لم يكن رئيسَ بلدية عاديًّا، بل نهضَ ببلدته زوق مكايل من قريةٍ غافيةٍ على خصر الشاطئ الكسرواني، إِلى مدينة حضارية تزهو لا على مدُن لبنان وحسْب بل ظلَّت تزهو حتى قطَف لها نهاد نوفل، قبل ربع قرن (1998) جائزة الأُونسكو كـ”مدينة من أَجل السلام في العالم العربي”، عدا مؤْتمرات عالَمية جعل زوق مكايل تخاصر فيها مُدُنًا كبرى بين مواءَمة وتَوأَمة.

قويًّا حضورُه كان هذا الرجل، لا بالصوت العالي بل بالتواضع العالي، حتى إِذا أُهْدِيَتْ إِليه الوزارة أَكثر من مرة، ترفَّع عنها أَنُوفًا بأَنه يعمل للإِنماء لا للسياسة. وهو فعلًا، بمبادئه الإِنمائية، رفع زوق مكايل إِلى الأَعلى من القمَم، لبنانيًّا وعربيًّا وعالَميًّا، موزِّعًا جهودَه على اللوجستيات المحلية في البلدة بُنًى تحتيةً وخدماتٍ زوقيةً ضمن القانون، ورؤْيويةً عانقت الجماليا المشهدية في طرقات الزوق وأَحيائها وشوارعها وحدائقها، ووجْهًا ثقافيًّا جعَلَ الزوق بلدةَ الواحات الثلاث: متحف الياس أَبو شبكة، متحف أَنطون قازان، ومتحف النول التحفة اليدوية الزوقية الخالدة.

بذاك التواضعِ السنْبُليّ أَنجَزَ كلَّ ما أَنجز. وإِنني، من مواكبتي إِياه نصف قرنٍ شخصيًّا وبلديًّا، أَشْهَدُ أَنه كان “عاشق الزوق”، يحلُم لها وبها وفيها كي تكونَ زهرة البلدات والقرى والمدن. كلُّ ذلك بصمتِ مَن يحقِّق فيقول “أَنجَزْتُ” لا من يقول “سوف أُنْجِز”. وبذاكَ الصمت الشاسع العمْق تلقَّى صعْقة القدَر يوم فَقَد وحيدَه المحامي إِيلي بانفجار مرفإِ بيروت، فكان 4 آب يومًا أَسودَ اخترقَه في صَدره، ومن يومها راح يضعُفُ قلبُه الكبير نبضةً نبضةً حتى انطفأَتْ نبضَتُه الأَخيرة هذا الأُسبوع، وغادر الزوق وبيتَه لكنه مُدركٌ أَنَّ له من كل بيت في الزوق مَلْمحًا من فضْل ووفاء.

مِن الناس مَن يموتون قبل أَن يموتوا، فهُم عابرون لا يُـحَسُّ بهم، ومِن الناس مَن يموتون يوم يموتون، فيغيبون مع تَوالي الأَيام إِلى النسيان، ومِن الناس مَن لا يموتون ولو ماتوا، فيُبْقيهم أَثرُهم أَحياء في الذكرى والذاكرة.

جاء في اللغة: “رَجُلٌ نَوْفَلٌ أَي كريمٌ معطاء”. وهكذا نهاد نوفل: باقٍ أَثرُه طويلًا في الزوق التي كان لها الـمُحبَّ والكريم والمعطاء، وله فيها صدًى لن يغيب ولو غابَت عنها معظم الأَصوات.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى