تَطبِيعُ العرب مع بغداد ودمشق… ماذا عن بيروت؟

محمّد قوّاص*

لا تخفي إيران توتّرها من العودة العربية الحيوية إلى العراق. لا تُفصِحُ رسميًّا عن تَبَرُّمٍ أو امتعاض. لكن الديبلوماسية الإيرانية، من خلال زيارات وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان من جهة، والحضور الأمني الاستراتيجي، من خلال زيارات قائد “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” إسماعيل قاآني من جهة أخرى، تُفصِحُ عن واجهاتٍ لتأكيد فائض نفوذ طهران داخل شؤون بغداد.

سينسحب الأمر نفسه على أعراض العودة العربية إلى دمشق. فإذا ما كانت دوافع التحرّك العربي قدّمت كارثة الزلزال الذي تعرّضت له سوريا مُناسَبةً لإبداء التضامن مع السوريين من خلال البوّابة الدمشقية، فإن الخلفيات التي ليست خافية ترى في تكثيف الحضور العربي ما يُمكن أن يُخفّفَ من الحضور الإيراني ويُقنِعَ النظام السوري بالتحلّل تدريجًا من ارتهانه لأجندات طهران. هنا أيضًا تتحرّك طهران وستتحرّك للدفاع عمّا راكمته من مُكتسباتٍ ونفوذٍ أسقطت دمشق داخل نفوذها في المنطقة. حتى حين وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، الزيارات العربية الأخيرة إلى دمشق، بـ”الخطوة الإيجابية” رأت أوساط عربية أن تَحَدُّثَ طهران باسم دمشق تذكيرٌ إيراني بأن “الأمرَ لي” في سوريا.

وبغض النظر عن وجاهة هذه الآلية العربية بشأن العراق وسوريا والجدل في نجاعتها بالنظر إلى حجم الاختراق البنيوي الذي تملكه إيران داخل منظومتَي الحُكم في بغداد ودمشق، غير أن العودة العربية، على الأقل بالشكل الذي مثّله توافد البرلمانيين العرب إلى دمشق، لا تأخذ المنحى الدولتي المؤسّساتي الذي أسّسَ لعودة العرب إلى العراق. فما زالت المُقاربات العربية تجريبية مُتفرّقة، يقوم بعضها على انفعالاتٍ فرضتها كارثة الزلزال، وإن كانت عواصمُ عربية طوّرت علاقاتها مع دمشق قبل ذلك. كما أن هذا التطبيع يتجاهل أسباب القطيعة ولا يقوم على قواعد سياسية تُطاولُ المعضلة السورية الكبرى.

تمسُّ العودةُ العربية ما أُطلِقَ عليه اسم “الهلال الشيعي” وفق المصطلح الشهير الذي وصف فيه العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في كانون الثاني (ديسمبر) 2004 التمدّد الإيراني في المنطقة وخططها ما بين طهران وبيروت. ستؤثّر العودة العربية إلى العراق وسوريا آليًّا في التفاصيل اليومية للعملية السياسية في لبنان. سيُعزّز الأمرُ في دمشق من إطلالة النظام السوري على شؤون بيروت ويفرض على طهران، لا سيما من خلال “حزب الله”، إعادة قراءة وتموضع لنفوذها في لبنان بناءً على التحوّلات الجارية في بغداد ودمشق.

وتكمن المفارقة في أن التدفّقَ العربي باتجاه العراق وسوريا يقابله فتورٌ في علاقة العرب مع الحالة اللبنانية. وسيكون عجيبًا أن تتمتّعَ سوريا التي أخرجها النظام السياسي العربي من جامعة الدول العربية بهذا الحماس المُترجّل لتطبيع العلاقات مع نظامها، فيما لا يبدو أن لبنان سيحظى بهذا التعاطف الجماعي في الأجل القريب. والمفارقة أن “قيصر” واشنطن، ومزاج أوروبا وأميركا، ما زالا معاندَين لأي تطبيع مع دمشق ما قد يربك التطبيع العربي، فيما لا موانع دولية تواجه ذلك مع لبنان.

وحتى إشعارٍ آخر ستبقى الهمم العربية في مناوراتها السياسية وفي أهدافها الجيواستراتيجية محكومة بحقيقة أنها من بغداد إلى بيروت تعمل داخل ميادين النفوذ التابعة كلّيًا أو جُزئيًا لإيران، وأن تحقيقَ نجاحٍ في هذا الحَيّز أو ذاك يخضع لمستويات القبول والاعتراض التي تملكها طهران، ورهن ما تتيحه إيران وتسمح به من منافسة من قبل أطراف أخرى.

ولأن تُعبّر السياسة التي يعتمدها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (وقبله مصطفى الكاظمي) عن إرادةٍ حقيقية للانفتاح على المحيط العربي بعامة والخليجي بخاصة، فإن الأمر لم يغادر حيّز التفاهمات مع طهران وبالاتفاق مع التيارات والفصائل السياسية العراقية الموالية لها. كما أن سياسة بغداد العربية مستفيدة من عملية الحوار التي ترعاها بين إيران والسعودية والتي ما برح البلدان يعبّران عن إيجابيتها، ولو بمصطلحات متفاوتة، والتمسّك باستمرارها.

تقوم عودة العراق إلى بيئته العربية على قاعدة تتردّد في بغداد تسقط الجانب القومي الإيديولوجي وتُدرج الأمر في سياق ضرورة الانفتاح على الحاضنة العربية من دون أن يؤثّر ذلك في مستوى العلاقات مع إيران. وتكاد “ضريبة” المرور إلى طهران في كل مرة يقوم بها رئيس الوزراء العراقي بزيارات لتطوير علاقات بلاده العربية والدولية تكشف قواعد اللعبة في هذا الإطار وحدودها. في المقابل فإن العودة المحتملة لدمشق إلى الحاضنة العربية لم تكشف عن أيِّ تحوّلات جدية في علاقتها مع طهران ما يشي بأنَّ أيَّ تطبيع لعلاقات النظام السوري مع البيئة العربية لن تختلفَ قواعده عما هو معمول به في بغداد من تمسّك بعلاقة ذات مستوى عالٍ ومتفوّق مع إيران ولا يحيد عن هامشها المسموح.

والواقع أن المقاربة العربية كانت تعتبر قبل سنوات أن لا مصلحة في الوصل مع بلدان عربية وقعت عواصمها داخل النفوذ الإيراني وفق ما تبجّحت به منابر في إيران قبل سنوات. والواضح أن هذه المقاربة تقادمت وبات العرب ذاهبين إلى تطبيع العلاقات مع العراق وسوريا على الرغم من هيمنة الحالة الإيرانية وتجذّر نفوذ طهران داخل دمشق وبغداد. بمعنى آخر فإن العرب يتعاملون مع الأمر الواقع من ضمن تطوّر تعاملهم مع الحالة الإيرانية العامة في المنطقة.

وتعبّر هذه الدينامية عن حزمٍ في قرار استعادة الحضور العربي وعن رشاقةٍ في انتهاج هذه الاستراتيجية وفق ظروف وقواعد وتوقيت وآليات تختلف من حالة إلى أخرى.

وفق ذلك الحزم وتلك الرشاقة وجب أيضًا التعامل مع لبنان. وإذا ما احتاجت الحالة اللبنانية إلى معادلاتٍ وآلياتٍ أُخرى، فإنه بات مطلوبًا أن يطلّ العرب على نحوٍ مُكثّف وضاغط، على الأقل على نسق مكمّل للورشة العراقية-السورية. وإذا ما ارتأى العرب فرض إنزال ديبلوماسي سياسي في العراق وسوريا، فإن إنزالًا بات ضروريًا في لبنان يُعزّز حضورًا يأخذ في الاعتبار الحالة الإيرانية، لكنه يأتي متّسقًا مع حضورٍ إقليمي ودولي ديبلوماسي نشط في بيروت.

وربما من الأجدى أن لا يُعتبَر الحضور العربي في لبنان مُكمّلًا لحضورٍ ما في العراق وسوريا. لا بل إن في هذا الحضور ما يُعزّزُ ويُصَوّبُ ويُحَصّنُ أيّ سياسات عربية راهنة أو مقبلة في المنطقة. العالم في حالة تحوّل قد يكون تاريخيًا، وجديرٌ بالعرب أن يكونوا جاهزين بأوراقهم ومُعطيات نفوذهم للتموضع الأنجع أيًّا كانت وجهات التحوّل وبوصلته.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى