هل سياسةُ التَهدِئة هي الحلّ؟

الدكتور ناصيف حتي*

الحكومةُ الإسرائيلية الجديدة، حكومةُ اليمين الديني المُتَشَدِّد كما تُوصَفُ عن حقّ، جاءت حاملةً لهَدَفَين تغييريين أساسيين: أوّلًا في الداخل، كما وصفه البعض، عبر محاولة تنفيذ انقلابٍ قانوني ضد السلطات القائمة وتحديدًا القضاء من خلال منح الحكومة سيطرة كبيرة عليه، خصوصًا في ما يتعلق باختيار القضاة، ووضع قيودٍ بالمقابل على سلطة المحكمة العليا. كل ذلك يحصل في ظلِّ ازدياد الشرخ بين التيار الديني المُتَشدّد بأطرافه الحزبية المختلفة والذي يزداد انتشارًا وقوّةً من جهة، والتيار العلماني بيمينه القومي المُتشدّد ويساره المتراجع بقوة من جهةٍ أُخرى. ولا بدّ من التذكير إنه عندما يجري الحديث عن مخاطر تراجع الديموقراطية في إسرائيل، أو سقوط النظام الديموقراطي على أيادي اليمين الديني المُتشدّد، فإنها في حقيقة الأمر تتعلّقُ قانونًا وممارسة بشأن الديموقراطية لليهود في إسرائيل وليس الآخرين أي “عرب إسرائيل”. نظامٌ يُذكّرُ بنظام التمييز العنصري الذي كان قائمًا في جنوب أفريقيا في الماضي، أيًّا كانت “المساحيق التجميلية” التي يحاول أصدقاء إسرائيل وضعها على النظام القائم.

ثاني هذين الهدفين التغييريين قائمٌ في الخارج، في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحديدًا في الضفة الغربية التي تُريدُ الدولة العبرية إتمام تهويدها، حيث تعتبرها جُزءًا من “إسرائيل التاريخية الكبرى”، والتي تسعى إلى تهويدها بالكامل منذ حرب ١٩٦٧، حسب السياسة الإسرائيلية أيًّا كانت العناوين التي يقدّمها كلُّ طرف إسرائيلي لوصف المناطق المحتلة. يَظهَرُ ذلك في التوافق الإسرائيلي الكبير حول رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وعاصمتها القدس الشرقية. وأكثر ما تذهب إليه “الأطراف المعتدلة” هو درجة “متقدّمة” عن الآخرين تتعلّقُ بمنحِ نوعٍ من الحكم الذاتي للشعب  الفلسطيني في بعض هذه المناطق المحتلة فيما تبقى القدس الشرقية خارجها كون “القدس الموحّدة عاصمة إسرائيل”. الجديد اليوم أنَّ حكومةَ اليمين الديني المُتشدّد لم تَعُد مَعنية باللجوء الى مُقاربةٍ تقوم على القضم التدريجي للأراضي المحتلة، من خلال السيطرة على الأرض ومصادر المياه وتقسيم وتقطيع مناطق الضفة الغربية عبر سياسةٍ استيطانية تدريجية وذلك تحت عنوان الحفاظ على الوضع القائم إلى أن يأتي الحل. الحلُّ الذي ياتي بعد أن يتمَّ إلغاء أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة عبر سياسات القضم والضم وتجفيف المنابع الضرورية للحياة بالنسبة للشعب الفلسطيني وبالتالي جعل إقامة الدولة الفلسطينية أمر غير ممكن واقعيًا وعمليًا.

سياسة الحكومة الجديدة ناشطة وواضحة وعلنية في إلغاء ونسف أُسُسِ قيام الدولة الفلسطينية. سياسةٌ تَعمَلُ بشكلٍ مُتسارِعٍ لإقامةِ إسرائيل الكبرى من النهر الى البحر مستفيدة من الأوضاع الفلسطينية والعربية والدولية القائمة: ضعفٌ وتبعثُرٌ سياسي فلسطيني وأولوِيّات إقليمية ضاغطة همّشت القضية الفلسطينية وأخرجتها من لائحة الأولويّات الإقليمية المؤثّرة في السياسة وفي الأمن. الاعتداءات المتكرّرة على الأماكن المقدسة في القدس والإعلان عن تسريع عملية شرعنة مستوطنات لم تُمنَح من قبل الشرعية القانونية من طرف السلطات الإسرائيلية في إطار سياسة التهدئة والحفاظ على الوضع القائم والقضم التدريجي كما أشرنا سابقًا، جاءت لتعكس السياسة الجديدة.

وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، يؤكّد بشكلٍ متكرّر أنَّ إسرائيل ستعمل على بناء المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية وعلى تشييد منازل في مستوطناتٍ قائمة. وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن هناك نحو ١٠٠ الف مستوطن مُسلّح في الضفة الغربية، وهو ما يؤشر إلى السياسة الإسرائيلية الناشطة بكافة الوسائل لإفراغ الضفة الغربية من سكّانها، أو لجعلهم في أوضاعٍ صعبة جدًّا تدفع للرحيل أو الخضوع الكلي.

الحراك أو تحديدًا المواقف الدولية اليوم، وبخاصة الموقف الأميركي، يدعو أو يعمل للتهدئة وللعودة إلى الوضع الذي كان قائمًا في السابق، والإعلان عن التمسّك بحلِّ الدولتين، فيما الذي يجري على الأرض ينسف أسُسَ هذا الحل كليًّا. ويقول السفير الأميركي السابق والخبير في شؤون الشرق الأوسط إدوارد جيرجيان أنَّ الولايات المتحدة تنشط لإدارة الأزمة وليس لحلّها. زيارةُ كل من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان، ومدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز، إسرائيل جاءت تحت عنوان العمل على التهدئة من جهة والتركيز على ملف مواجهة إيران من جهة أُخرى. لكن ازديادَ وتصاعد ردّ الفعل الشعبي الفلسطيني وانتشاره، حتى ضمن إسرائيل، في مقاومة السياسة الإسرائيلية الجديدة يُهيِّئ لقيام انتفاضةٍ فلسطينية ثالثة. إنتفاضةٌ ستساهم بدون شك في إعادة وضع القضية  الفلسطينية على جدول الأولويات الإقليمية، وتؤدي إلى خلط الأوراق في المنطقة التي تعيش العديد من التوترات والحروب المختلفة .

“اجتماع القدس” في جامعة الدول العربية كان ضروريًا لبلوَرَةِ موقفٍ من هذه التطورات، ولكنه بالطبع غير كافٍ إذا لم يتبعه تحرّكٌ عربيُّ فاعلٌ على الصعيد الدولي. تحرّكٌ بدأ بلقاء الأمين العام لجامعة الدول  العربية أحمد أبو الغيط ووزير خارجية المملكة العربية السعودية الأمير فيصل بن فرحان مع المفوض الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الإتحاد الأوروبي في بروكسل جوزيب بوريل غداة اجتماع القاهرة. لكن هذه الخطوة يُفتَرَضُ أن تَندَرِجَ في مبادرةٍ عربية تجاه القوى الدولية المؤثّرة لإعادة إحياء عملية السلام ولو بشكلٍ تدرّجي وعدم الاكتفاء بسياسة تدفع للتهدئة واحتواء التصعيد والعودة إلى الوضع الذي كان قائمًا والذي هو لمصلحة الاحتلال وتكريسه كليًا .

فالاهتمام الدولي الكلّي بالأزمة الأوكرانية أو الحريق الأوكراني رُغمَ تداعياته الدولية الخطيرة لا يعني أنه يمكن، عبر العودة إلى سياسة المراهم والوعود والمساعدات الاقتصادية وغيرها، منع أو تأجيل حصول “حريق فلسطيني” تصل شراراته إلى المنطقة بأشكالٍ مختلفة، طالما أنَّ السياسة الإسرائيلية مستمرّة في صبِّ الزيت على النار. خلاصةُ الأمر إنه غنيٌّ عن القول أنَّ المطلوبَ تحرّكٌ عربي أساسًا وبالتالي دولي فاعل وهادف لإعادة إحياء عملية السلام، المعروفة أُسُسها وقواعدها، ولو بشكلٍ تدرّجي، أيًّا كانت العراقيل الإسرائيلية امامها. فهل سنشهد ذلك؟

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى