الزلزال: تحوّلات السياسة!

محمّد قوّاص*

لم تتلكّأ كلُّ عواصم الدنيا التي هزّتها أخبار الزلزال الذي خلّف كوارث في تركيا وسوريا. كل حكومات العالم تحرّكَت بشكلٍ أو بآخر لإرسالِ المَدَدِ والعَون والمساعدة للتخفيف من مصابِ المناطق المنكوبة. ولئن تنطلق قوافل الإنقاذ الدولية بدوافع إنسانية بحتة، فإن العوامل السياسية تَظهر نافرةً لعرقلة المساعدات أو تتراجع موانعها لتسهيلها.

وتكاد قيود العلاقات الدولية وحساسياتها المُزمنة تختفي أو تتفكّك لتسهيلِ وصولِ المساعدات الدولية. تقاطرت فِرَقُ الإنقاذ من أكثر من 70 دولة صوب مناطق المأساة في تركيا. تجاوزت وتناست عواصم عديدة خلافاتها مع أنقرة وراحت تضخّ بالملايين ما يُمكِنُ أن تعجّل بإرساله بالتنسيق الكامل مع الحكومة التركية، وهو شرط أنقرة الأول.

ولئن تبرز الخلافات التركية-الأوروبية في واجهةٍ شديدة الحدّة مع اليونان إلى درجة تبادل التهديدات قبل أسابيع بشنّ الحرب، فإن رئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس الذي تحادث مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن إرسال المساعدات من بلاده و أكد “وضع كل قواتنا في تصرّف تركيا”. لا غرابة في ذلك، فقد سبق أن فعلت تركيا الشيء نفسه لمساعدة اليونان لمواجهة تداعيات الزلزال الذي ضرب أثينا في العام 1999. وفق الروحية نفسها ينسحب موقف كل أوروبا.

غير أن السياسة ما زالت عائقًا خبيثًا في سيرورة ضخّ المساعدات إلى سوريا. أعلنت دمشق في بيانٍ لسفيرها في الأمم المتحدة قبول كافة المساعدات الدولية. قدّمت الإمارات والسعودية والعراق والأردن والجزائر ودول عربية أخرى العون إلى سوريا سواء من خلال دمشق مباشرة أو من خلال منظمات إنسانية محلية ودولية. بالمقابل فتحت قضية المساعدات الدولية النقاش السياسي والقانوني بشأن كيفية إرسال العون وسُبُل الإغاثة الدوليين إلى سوريا من دون أن يُغَيِّرَ ذلك شيئًا من مقاربات هذه الدولة أو تلك من الأزمة السورية المُندلعة منذ العام 2011.

بات على الاتحاد الأوروبي أن يُكَرِّرَ ويؤكّدَ أن جهوده إنسانية تواجه من خلالها مأساة إنسانية وأن المناسبة لن تُغَيِّرَ من مواقف الإتحاد وشروطه للتعامل السياسي مع الشأن السوري. ولا يبتعد الموقف الأوروبي في تقديم ما هو إنساني على ما هو سياسي عن موقف الولايات المتحدة التي، إضافة إلى إرسالها أطنانًا من المساعدات إلى المنطقة، رفعت بعض العقوبات عن النظام في سوريا لمدة مؤقتة من 6 أشهر لرفع أية عوائق أمام تدفق المساعدات صوب سوريا، مع إشارة واشنطن مع ذلك أن عقوباتها أصلًا لا تشمل المساعدات الإنسانية.

في السياسة موافقة دمشق على إيصال المساعدات إلى المناطق التي لا تخضع لسيطرتها بالتعاون مع الصليب الأحمر والأمم المتحدة. لكن السياسة واصطفافات الحرب غير محصورة بالعلاقة بين المناطق التي يسيطر عليها النظام وتلك التي تسيطر عليها المعارضة. فما نُقِلَ عن رفض فصائل المعارضة المؤيدة لتركيا في شمال غرب البلاد قبول قوافل المساعدات الآتية من مناطق “الإدارة الذاتية” شمال شرق سوريا، أي المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديموقراطية “قسد”، يعكس عدم تأثّر فرقاء الصراع بهول الكارثة لتجاوز خلافاتهم وانتهاز المناسبة لتماس وتواصل لأغراض إنسانية بحتة.

صحيح أن الكوارث الجماعية قد تفضي إلى تقارب المتحاربين لكنها أيضًا قد تفاقم انقسامهم. في العام 2004 خلّف زلزالٌ في جنوب شرق آسيا 200 ألف قتيل في بلدان عدة. ساعدت الكارثة حكومة إندونيسيا على التوصل إلى اتفاق مع المتمردين أنهى الصراع في إقليم أتشيه. بالمقابل فإن الكارثة نفسها دفعت حركة نمور التاميل في سيريلانكا لتكثيف هجماتها وتصعيد الحرب التي استمرت لخمس سنوات أخرى. وعلى ذلك فإنه ما زال مبكرًا استشراف تداعياتٍ للزلزال تنهي الصراع في سوريا.

والسياسة أيضا تُفسّرُ توق إيران إلى تأكيد نفوذها في سوريا من خلال نشر صور قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني متجوّلًا في مدينة حلب قبل أن يزورها الرئيس السوري بشار الأسد. تدفع السياسة أيضًا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإعلان استجابة إسرائيل لطلبٍ سوري (من طريق طرف ثالث قيل إنه روسيا) بإرسال المساعدات، وهو أمرٌ نفته دمشق تمامًا.

وتلعبُ السياسة دورًا بارزًا في الداخل التركي نفسه وتصبّ زيتا على نار السجال بين الحكومة التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية والمعارضة المتعددة المُتجمّعة داخل إطار “الطاولة السداسية”. ويُشكّلُ الحدث مناسبة تتهم المعارضة من خلالها الحكومة بالتقصير والعجز والضعف في مواجهة مصاب البلاد، وبالتالي المطالبة بالتغيير ورحيل كل النظام السياسي بزعامة أردوغان.

بالمقابل فإن الرئيس التركي وحكومته يسعيان إلى بذل جهود استثنائية، بما في ذلك من خلال الجمعيات الخيرية التابعة لحزب العدالة والتنمية من أجل تقديم صورة جيدة فعالة لدى الشعب التركي بشأن قدرة النظام الحاكم على إدارة شؤون الكارثة وأهليته ليكون على مستوى الحدث الجلل. وفي بال الموالاة والمعارضة ما يمكن أن تغيره هذه الكارثة في وجدان المجتمع التركي وخياراته على بعد ثلاثة أشهر من الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقرر إجراؤها في 14 أيار/مايو المقبل.

وعلى الرغم من حجم ما خلفه الزلزال في تركيا وسوريا وما سيُخلّفه خلال الأشهر وربما السنوات المقبلة من تداعيات، إلّا أن خطوط الاصطفافات الجيوستراتيجية قد لا تتأثر بسبب المفاعيل الدراماتيكية للفاجعة. ولئن بدأ سؤال الانتخابات التركية يصبح افتراضيًا بشأن جهوزية البلاد لتنظيمها في موعدها، إلّا أنَّ هذا الاستحقاق سيبقى حاضرًا في خلفيات سلوك كافة التيارات السياسية التركية في الموقف من تداعيات الزلزال الرهيب. ولئن لم تُغيّر الكارثة من مواقف الفصائل السورية شمالًا بين غرب وشرق البلاد، فإن الكارثة لم تُغيّر أيضًا في علاقة النظام والمعارضة وقد لا تسرّع إيقاعات التحوّلات السياسية التي ظهرت خلال الأسابيع الأخيرة في علاقة أنقرة ودمشق.

وإذا ما كان الانقسام بين التحالف الروسي-الإيراني من جهة والتحالف الغربي من جهة أخرى حادًا يكاد يكون وجوديًّا في حرب أوكرانيا، فإن هذا الانقسام نفسه ينسحب على الشأن السوري على نحوٍ لن يُغيّرَ في المدى المنظور من قواعد اللعبة ومن شروط أي علاقة غربية مع دمشق.

ومع ذلك فإن الأيام الأولى للزلزال التي تُفاجئ المنطقة والعالم بهول الكارثة قد تفرج في الأشهر اللاحقة عن واقعٍ آخر وحقائق جديدة تفرض إعادة الشأن السوري إلى لائحة الأولويات الدولية.

وليس تفصيلًا في علم السياسة أن تُجمِعَ كافة العواصم الدولية والمؤسسات الإنسانية الكبرى مع منظمة الأمم المتحدة على المطالبة بفتح “كافة المعابر” مع سوريا، ففي ذلك ما له من مآلات سياسية مقبلة. ولا يبتعد في هذا الشأن واقع تركيا الجديد سواء جرت الانتخابات في موعدها أو تأجّل موعدها، ذلك أن لتحولات تركيا تأثيرًا مباشرًا على أيِّ تحوّلات سياسية في سوريا خصوصًا إذا ما حمل فصل الربيع وما بعده مآلات أخرى ينُتظر أن تخرج من أوكرانيا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى