إنَّهُ الإنسانُ أيُّها الأبله!

البروفسور بيار الخوري*

افتتحَ العام 2023 شهره الثاني بكارثةٍ عالمية، رُغمَ أنها لم تَطَل فعليًّا سوى دولتَي تركيا وسوريا. أقلّه بالمعنى النفسي، شكّلَ ذلك كابوسًا عالميًّا ونذيرَ شؤمٍ كوننا نستطيع أن نقول أنَّ العالمَ يتجه منذ سنواتٍ لمُراكمةِ أزماتٍ مُتفجّرة وكوارث عامًا بعد عام.

ياتي زلزال تركيا وسوريا بعد أقلِّ من عامٍ على “العملية الروسية الخاصة” في أوكرانيا أو الحرب الأوكرانية-الروسية، والتي كانت مسبوقة قبل عامين بوباء كورونا الذي امتدَّ حتى العام 2021.

لا ننسى ايضًا أنَّ صيفَ العام 2020 قد شهدَ انفجارَ مرفَإِ بيروت وانهيار نصف العاصمة مع ما كان لذلك من أبعادٍ إنسانيةٍ عظيمة تركت بصمةً في أذهانِ العامة تُشبه لحظة سقوطِ بُرجَي التجارة في نيويورك في 9 أيلول/سبتمبر 2001.

وإذا كانت جائحة كورونا والزلازل هما من صُنعِ الطبيعة، والحربُ في أوكرانيا مزيجًا من صُنعِ الجغرافيا الطبيعية وصراعات الإنسان، فإننا أيضًا لا نستطيع أن نؤكّدَ أنَّ الزلازل والأوبئة وسرعة تداولهما وتكثيف حضورهما هي حصرًا مُرتَبطة بقانون ونظام الكون. يُبرِزُ العِلمُ كلّ يوم دلائل إضافية على حجم الأثر الذي يتركه تدخّل الإنسان في قوانين الطبيعة في هذه السرعة وذلك التكثيف.

لقد شهدَ الكوكبُ خمسة انقراضاتٍ جماعية كان أسوَؤها منذ 250 مليون عام، حين زاد معدل احترار الأرض خمس درجات مئوية. الآن نحنُ نشهدُ أكبر زيادة في معدل احترار الأرض منذ بداية الثورة الصناعية. يُمكنُ أن نُضيفَ هنا أنَّ الهدفَ الذي وضعته اتفاقية باريس للمناخ، والمُتمثّل بحدٍّ أقصى لزيادة الاحترار 2% لا تلتزم به سوى 7 من أصل 195 دولة مُوَقِّعة على هذه الاتفاقية.

الجانب الكارثي هنا أنَّ كلَّ زيادةٍ في احترار الأرض بمثابةِ نقطةٍ مئوية واحدة تجعل إنتاجية الأرض من الغذاء تنخفضُ بمعدل 10%. ماذا لو أضفنا الزيادة في السكان بمعدل 10% إلى هذه المعادلة؟ نحن بمواجهة غلّة مُتناقصة بشكلٍ متزايد على مستوى العالم بالنسبة إلى حصّة كلِّ بشريٍّ من الغذاء.

بسبب زيادة إحترار الأرض تمتصُّ المياه في البحار والمحيطات والأنهار 90% من ثاني أوكسيد الكربون الذي تُنتِجه زيادة تخريب الإنسان للأرض، بما يزيد من ظاهرةٍ تُعرَفُ بتحمّض البحار، حيث يؤدي هذا التحمّض تدريجًا إلى موتِ الأحياء البحرية. يزيد هذا المُتغيّر أيضًا من قلّة الغذاء حيث تلعب الأحياء البحرية دورًا رئيسًا في النظام الغذائي العالمي وفي تَوَفُّرِ هذا الغذاء.

ماذا عن الصحّة العامة؟ يؤدي تلوث الهواء وانخفاض نسب الأوكسيجين إلى زيادة الاضطرابات العقلية واحتمال زيادة أعداد المُتعَرّضين للخَرَفِ المُبكر (مرض الزهايمر)، كما يؤدي إلى زيادة أمراضٍ مُزمِنة مثل أمراض السرطان والقلب وغيرها.

ومع زيادة ذوبان الجليد بسبب الاحترار في القطب الشمالي، سوف تعود الكثير من الاوبئة المُتجَمّدة للانتشار. هذه الأوبئة لا تَعرِفُ أجسامنا أيَّ شيء عن المناعة المطلوبة لمواجهتها، فهي تنتظر هناك منذ ملايين السنين اللحظة التي ستعود معها إلى الحركة.

يُراهِنُ العقلُ الإنساني الجمعي على دور التكنولوجيا في حلِّ مشاكل العالم، وربما دفعة واحدة في لحظة ثورية ما من مستقبل لا نعرف عنه شيئًا. لكن الواقع أنه ورُغمَ الحساسية المُتصاعِدة عبر العالم بين المستثمرين بالحافظة للابتعاد من الاستثمارات التي لا تُراعي النظامَ الإيكولوجي للأرض، فإنَّ الاستثمارَ في عَكسِ اتجاهِ خَرابِ الأرض لا نجده في وديان السيليكون التكنولوجية. الشركات هناك مُهتَمّة أكثر بالذكاء الاصطناعي وبإنترنت الأشياء وبكيفية استعمار كواكب أُخرى والسيطرة على موارد الكواكب الغنية بالموارد الطبيعية، لكن كل ذلك يحصل والأرض تخرب بسرعة.

فوق هول الكوارث والأعاصير ورُغمَ المشهد البشع الذي طوّرَ لنا ذاكرةٌ خاصة اُضيفَت إلى الخوفِ الإنساني الكبير والأزلي من مجهولية المستقبل، يُصبِحُ من الجائز القول إننا ننزلقُ نحو انقراضٍ جماعي لا بسبب كوارث الطبيعة، وهي التي تعايش معها الكوكب مليارات السنين، ولكن بسبب ذلك الضيف الثقيل الذي خُلِقَ قبل ثلاثمئة ألف عام فقط. خمسة مليارات سنة من تاريخ الأرض يُنهيها مخلوقٌ طمّاع قصيرُ النظر يحفر قبوره بأيديه وبحماسة شديدة. إنه الإنسان أيها الأبله!

  • البروفسور بيار الخوري هو باحث أكاديمي لبناني وكاتب في شؤون الإقتصاد السياسي. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: https://pierrekhoury.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى