المُتَشَدّدون الإيرانيون يربحون: كيف شكلت أشهرُ الاحتجاجِ نظامًا أكثر تَشَدُّدًا

آية الله علي خامنئي مُصمّمٌ على الحفاظ على النظام الذي حكمه لأكثر من ثلاثة عقود. ومن شأن التسوية مع المعارضين في هذه المرحلة أن تلطخ إرثه، وقد تؤدي إلى نتائج عكسية. لقد شهد عن كثب كيف أدّى استيعاب وإرضاء المتظاهرين إلى تسريع انهيار نظام الشاه في العام 1979.

الرئيسان فلاديمير بوتين وابراهيم رئيسي: إيران تسعى لكي تكون الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها من قبل الكرملين عسكريًا.

وَلي نصر*

على مدى الأشهر الخمسة الماضية، هزّت موجةٌ من الاحتجاجات إيران. وانضمَّ إلى النساء الشابات اللواتي يُطالبن بوضعِ حدٍّ للحجاب الإجباري طلابٌ وعمّالٌ ومهنيون يطالبون بالحقوق الفردية والإصلاح السياسي – وحتى، بشكلٍ متزايد، بوضع حدٍّ للجمهورية الإسلامية نفسها. شكّلت هذه المظاهرات التهديد الأكثر أهمية وخطورة للحكومة الإيرانية منذ العام 1979، ما أثار التكهنات بأن النظام الثيوقراطي اليوم يمكن أن ينهار ويسيرَ في نهاية المطاف على طريق النظام الملكي في الأمس.

في الوقت الحالي، احتفظ النظام بزمام الأمور، بفضل القمع القاسي الذي مارسته قوات الأمن وغياب القيادة والتنسيق بين المتظاهرين. لكن الغضبَ الشعبي لا يزال يتصاعد، والظروف الاقتصادية السيئة تجعل المزيد من الاضطرابات أمرًا لا مفر منه.

إن وضعَ النظامِ غير مُستَقر لدرجةٍ أنَّ العديدَ من مؤيديه قد انتقد خط الحكومة علنًا. انتقد آيات الله في النجف وقم ومسؤولون حكوميون كبار سابقون وحتى قادة سابقون في الحرس الثوري الإسلامي الحاصلون على أوسمة، ردّ فعل الحكومة على الاحتجاجات وشجبوا المدى الذي وصلت إليه مجموعة صغيرة من المتشدّدين حول الرئيس إبراهيم رئيسي من تعزيز سيطرتها. انتقدت المنافذ الإخبارية المشهورة لدى المُتشدّدين والمقرّبين من الحرس الثوري الإيراني، علانية ، رئيسي لسوء إدارته للاقتصاد، وندّدَ أنصارُ النظام، بمن فيهم الرئيسان السابقان محمد خاتمي وحسن روحاني ورئيس البرلمان السابق علي لاريجاني، بردِّ فعل الحكومة القاسي على الاحتجاجات. وقد دعا هؤلاء النقاد إلى تغييرٍ ذي مغزى إذا أرادت الجمهورية الإسلامية أن تتغلّب على العاصفة.

لكن لا يوجد دليلٌ على أن المرشد الأعلى علي خامنئي يستمع. منذ بداية الأزمة، شدّدَ المُتشدّدون قبضتهم على مقاليد السلطة. يُعارضُ هذا الفصيل التعامل مع الغرب ولا يرغب في العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015. في الداخل، يُفضّل الانعزالية والرقابة المُشَدَّدة على المجالات الاجتماعية والسياسية. في الخارج، يُفضّلُ السياسات الإقليمية العدوانية وزيادة التعاون مع روسيا. وبمعنى آخر، فإن النظام الذي يخرج الآن من المرحلة الأولى من الاضطرابات، بعيدًا من التأثّر بسبب الاحتجاجات، أصبح أكثر تشدّدًا وربما عدوانية من أي وقت مضى.

خط خامنئي المُتشدّد

إن تحوّلَ إيران القوي المناهض للغرب ليس مدفوعًا بالرغبة في الدفاع عن إيديولوجية النظام الإسلامية. في كل خطابٍ منذ بدء المظاهرات، لم يقل خامنئي الكثير عن الدين – ولم يقل الكثير عن التدخّل الأجنبي. وينظر خامنئي إلى الاحتجاجات على أنها مؤامرة أميركية، تم تحفيزها بالتنسيق مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية، لإضعاف إيران وإسقاط الجمهورية الإسلامية. في رأيه، يجب على إيران حشد كل مواردها للرد على هذا الهجوم. وألقى مسؤولون أمنيون مقرَّبون من خامنئي باللوم على المحطات التلفزيونية الفضائية وحملات وسائل التواصل الاجتماعي الناشئة في أوروبا لإذكاء الاضطرابات في إيران وتعبئة الرأي العام ضد الجمهورية الإسلامية. كما ألقوا باللوم للاضطرابات في منطقتي البلوش والأكراد في إيران على التدخل الأجنبي. في الخريف الماضي، حشدت إيران قواتها على طول حدودها مع أذربيجان وحذّرت العراق من أنها قد تعبر الحدود إلى ذلك البلد لإغلاق معسكرات الانفصاليين الأكراد.

خامنئي مُصمّمٌ على الحفاظ على النظام الذي حكمه لأكثر من ثلاثة عقود. وهو يبلغ من العمر 83 عامًا ويُشاع أنه في حالة صحية سيئة. من شأن التسوية مع المعارضين في هذه المرحلة أن تُلطّخَ إرثه، وقد تؤدي إلى نتائج عكسية. لقد شهد عن كثب كيف أدى استيعاب وإرضاء المتظاهرين إلى تسريع انهيار نظام الشاه في العام 1979.

وبدلًا من الانصياع للمتظاهرين أو الاستجابة لنصائح المنتقدين، لجأ خامنئي إلى العنف والقمع. منذ أيلول (سبتمبر)، قُتلَ مئات المتظاهرين وتشوّه عددٌ أكبر في حملات القمع التي شنتها قوات الأمن. الآلاف من المتظاهرين والمعارضين الآن في السجن. أربعةٌ أُعدِموا بعد محاكمات موجزة، والعديد منهم يواجهون عقوبة الإعدام. استخدم النظام مراقبةً متطورة؛ تهديداتٌ لعائلات المتظاهرين وأصحاب العمل والشركات؛ والدعاية والضغط الاقتصادي لقمع الاضطرابات.

كما اعتمَدَ خامنئي بشكلٍ أكبر على مشورة المُتشدّدين داخل الحرس الثوري الإيراني ووكالات المخابرات والبرلمان ووسائل الإعلام. بالنسبة إلى خامنئي، هؤلاء هم الأشخاص الذين يفهمون المشكلة كما يفهمها، ويشاركونه عدم ثقته في الغرب، ويعارضون الاتفاق النووي باعتباره فخًّا مُصَمَّمًا لمحاصرة إيران. في رأي خامنئي، لقد تم إثبات عدم ثقة هؤلاء بالغرب، لذلك يجب تمكينهم وتعزيزهم لكي يتجنّبوا ويتفادوا الغرب، وتقييد الإنترنت وفرض الرقابة عليها، والسعي إلى الاستقلال الاقتصادي والثقافي. لقد وجدت هذه الآراء وانتشرت داخل أروقة السلطة على الدوام، لكن الاحتجاجات زادت من بروزها.

كما أدت الاحتجاجات إلى إضعاف آفاق استعادة وإحياء الاتفاق النووي لعام 2015. منذ اندلاع التظاهرات في أيلول (سبتمبر) 2022، شعر القادة الغربيون بالإحباط من الإيحاء بإمكانية رفع العقوبات كجُزءً من إعادة إحياء الإتفاق النووي. كانت إدارة جو بايدن مُتردّدة حتى في السعي إلى إطلاق سراح السجناء الأميركيين المحتجزين لدى إيران، خوفًا من رد الفعل المحلي العنيف الذي قد تتكبده إذا تم رفع تجميد الأصول الإيرانية كجُزءٍ من أي صفقة. لكن المتشددين في طهران بدوا غير مُنزَعجين من الازدراء الغربي ولم يكترثوا إذا أدى قمع وإعدام المتظاهرين الشباب إلى مزيدٍ من العقوبات وإثارة احتمال أن يُصنِّفَ الاتحاد الأوروبي الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية.

تتجه إيران إلى مياه مضطربة في الأمم المتحدة أيضًا. أثارت مخالفات طهران النووية قلق الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي أخبر رئيسها البرلمان الأوروبي أخيرًا أن إيران جمعت ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لـتصنيع “أسلحة نووية عدة”. قد تُحيلُ الوكالة الدولية للطاقة الذرية إيران قريبًا إلى مجلس الأمن الدولي لتوجيه اللوم، ما يزيد من احتمال أن يُعيدَ فرض عقوبات أممية، خصوصًا وأن فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة كلها حريصة على فرض حظر على بيع الأسلحة والصواريخ للجمهورية الإسلامية. وهددت إيران بأنها سترد على مثل هذا السيناريو بالانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، مُعلنةً بشكل فعال أنها ستصبح دولة نووية. قد يؤدي القيام بذلك إلى مواجهة مع إسرائيل، التي هاجمت الشهر الماضي منشأة لتصنيع الأسلحة في مدينة أصفهان الإيرانية، وربما مع الولايات المتحدة. وكما صرح الرئيس الأميركي جو بايدن مرارًا وتكرارًا، فإن إدارته لن تتسامح مع تحوّل إيران إلى دولة نووية.

من طهران إلى موسكو

استجابت إيران لعزلتها الدولية المتفاقمة من خلال الاقتراب من روسيا. لطالما اعتبر خامنئي والحرس الثوري الإيراني الكرملين حليفًا حيويًا. يتشاطر خامنئي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين النظرة نفسها المُناوِئة للغرب، وقد أدت حرب روسيا في أوكرانيا إلى تركيز أكثر حدة على ضغينة طهران وموسكو المشتركة ضد الولايات المتحدة. وتجاهل خامنئي الانتقادات من داخل النخبة الحاكمة للموافقة على تزويد موسكو بطائرات مُسَيَّرة متطورة، والتي استخدمها الجيش الروسي لإحداث فوضى في أوكرانيا. جادل خامنئي أنه مع وقوف أميركا وشركائها في أوروبا والشرق الأوسط ضد الجمهورية الإسلامية، يجب على إيران أن تُعزِّزَ علاقتها مع روسيا في الأماكن الأكثر أهمية: في ساحة المعركة. إن الأداء العسكري الروسي الضعيف في أوكرانيا يجعل موسكو ركيزة استراتيجية أكثر قيمة لأنه طالما أن الكرملين يحتاج إلى أسلحة إيرانية، فمن غير المرجح أن يدير ظهره لطهران.

أدّى قرار إيران بتزويد روسيا بطائرات مُسَيَّرة إلى تعميق الغضب الغربي تجاه الجمهورية الإسلامية، الأمر الذي دفع طهران بدورها إلى الاقتراب أكثر من موسكو. في هذه الحلقة المفرغة، سيكون الرابحون هم المتشدّدين الذين فضّلوا دائمًا توثيق العلاقات بين إيران وروسيا والانفصال عن الغرب. مع انجراف إيران أكثر نحو فلك روسيا، ستزداد قوة هؤلاء المتشدّدين، مما يُحسّن احتمالات فوزهم في معركة خلافة خامنئي التي تلوح في الأفق.

تسعى إيران الآن كي تصبح دولة لا غنى عنها للجهود الحربية الروسية في أوكرانيا. كلما احتاج بوتين إلى إيران، زاد احتمال أن ينتهك العقوبات الغربية ويُزوّد طهران بالمعدّات والتكنولوجيا العسكرية الحيوية، بما في ذلك الطائرات المقاتلة وأنظمة الدفاع الجوي المتقدمة. وقد أفادت وسائل الإعلام المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني في الشهر الماضي أن إيران ستتلقّى أكثر من عشرين مقاتلة روسية متطورة من طراز”سوخوي أس يو-35″ (Sukhoi Su-35) بحلول آذار (مارس) وتتطلع للحصول على طائرات هليكوبتر ونظام دفاع جوي متقدم من طراز “أس-400″ (S-400)، القادر على تعقب طائرات ال”أف-35” المقاتلة الأميركية. ستُعزّز عمليات الاستحواذ هذه القدرة العسكرية الإيرانية بشكل كبير، وتُمكّنها من مواجهة القوة الجوية الإسرائيلية في سوريا والعراق بشكل أفضل، فضلًا عن الضغط العسكري الأميركي في الخليج العربي. كما إنّها ستمنح طهران الثقة لامتصاص الضغط الغربي والتخطيط لهجوم عسكري محتمل ردًا على أنشطتها النووية الموسّعة.

لكل هذه الأسباب، يزداد قلق جيران إيران من انجراف طهران نحو موسكو، خائفين من أن ذلك قد يزيد من ترسيخ المُتشدّدين الإيرانيين ويجعل إيران أكثر خطورة. في نهاية المطاف، قد يواجه الغرب ليس فقط أزمات منفصلة تشمل روسيا وإيران، ولكن أيضًا المشكلة الإضافية المتمثّلة في إدارة سلوكهما المشترك – وهي مشكلة ستكون أكبر من الأزمات الحالية مجتمعة.

الفعل أكثر من الأمل

يأمل بعض المسؤولين والمحللين الغربيين في أن يؤدي استيلاء المتشددين في إيران على السلطة إلى تسريع الاحتجاجات ويؤدي في النهاية إلى تغيير النظام. لكن الأمل بديلٌ ضعيف من الفعل. حتى الآن، اعتمدت الولايات المتحدة والدول الأوروبية على العقوبات والتهديد بالحرب لردع السلوك العدواني لإيران. لكن إسرائيل مضطربة ويمكن أن تُصعّد جهودها لتخريب برامج طهران العسكرية والنووية. إن القيام بذلك لن يؤدّي إلّا إلى تعزيز قناعات إيران المتشددة المناهضة للغرب ويخاطر باندلاع حريقٍ مفتوح لا يمكن للولايات المتحدة وحلفائها تحمّله في خضم مواجهتهما مع روسيا والصين.

لذلك يجب على واشنطن وحلفائها وضع استراتيجية ذات مصداقية على الأقل لإبطاء الانعطاف المُتشدّد لإيران. وستتطلب مثل هذه الاستراتيجية اقتران التهديدات والعقوبات بالحوار حول المخاطر الأكثر إلحاحًا الصادرة عن الجمهورية الإسلامية، بما في ذلك دور إيران في الحرب في أوكرانيا وتوسيع برنامج طهران النووي. التقى مسؤولون إيرانيون وأوكرانيون أخيرًا في سلطنة عُمان لمناقشة دور إيران في الحرب. كانت هذه بداية جيدة. يجب على أوروبا والولايات المتحدة البناء على هذه الجهود، وإطلاق مبادرة ديبلوماسية أوسع نطاقًا تتجاوز المحادثات النووية المتوقفة لتشمل أوكرانيا والقضايا الإقليمية. وإلّا فإن المتشددين في إيران سيستمرون في دفع البلاد في اتجاهٍ أكثر خطورة من أي وقت مضى.

  • ولي (فالي) نصر هو أستاذ في معهد مجيد خدوري للشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز. يمكن متابعته عبر تويتر على: @vali_nasr
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى