السرطان والسياسات الصحية

الدكتور فيليب سالم*

في مثل هذا اليوم من كل سنة، يقف العالم بخوف وريبة امام هيبة السرطان وسلطانه. وكان هذا المرض قد تنازل عن عرشه في السنوات الثلاث الماضية، ليتبوأ هذا العرش طاغية جديد وهو وباء “كوفيد-19” أما اليوم، وها قد انحسرت هذه الجائحة، عاد السرطان لمركزه الطبيعي “كإمبراطور الامراض كلها”. ولكن مما لا شك فيه ان هذا الامبراطور يخسر من جبروته ويتراجع كل يوم أمام قوى العلم التي تتقدّم كل يوم.

لقد نشرت الجمعية الأميركية للسرطان في العدد الأول لهذه السنة من مجلتها العلمية دراسات جديدة تثبت ان الخطر من الوفاة من السرطان يتضاءل تدريجًا في الولايات المتحدة الأميركية؛ وأنَّ نسبة الوفاة عند الرجال والنساء معًا، قد هبطت 32% من قمتها في سنة 1991 إلى سنة 2019. هذا يعني أنَّ العلم منع حصول الوفاة لثلاثة ملايين ونصف المليون إنسان في هذه الفترة الزمنية. وتشير هذه الدراسات أيضًا إلى أنَّ نسبة الوفاة قد تراجعت 2% من سنة 2015 إلى سنة 2019 مقارنةً ب1% التي كانت في التسعينيات الفائتة. وتعزو الجمعية الأميركية هذا التراجع في نسبة الوفاة إلى التراجع في عدد المُدخّنين والتقدّم في مجالات الوقاية والتشخيص المبكر والعلاج. وتطرقت هذه الدراسات إلى الأمراض السرطانية التي يُمكننا الوقاية منها كلّيًا كالأمراض التي تنتج عن التدخين والإفراط في استهلاك الكحول، والسمنة الجسدية. وتُشكّل هذه الامراض 42% من مجموع الإصابات بالسرطان.

ومن أهم ما جاء في هذه الدراسات، هو فعالية اللقاح في الوقاية من سرطان عنق الرحم عند النساء. لقد أثبتت الأبحاث العلمية أنَّ معظم سرطانات عنق الرحم تحصل كنتيجة للالتهابات الجرثومية التي تُسبّبها بعض الفيروسات من أنواع ” الورم الحليمي البشري” (Human papilloma). وإنه عندما نمنع حصول هذه الالتهابات، أو نُعالجها، نمنع بالتالي الإصابة بالسرطان. فالنساء اللواتي تلقّين اللقاح ضد الفيروس انخفضت عندهن الإصابة بسرطان عنق الرحم بنسبة تفوق 85%. لذلك يجب على جميع الإناث بين عمر 10 سنين و30 سنة أخذ هذا اللقاح. وسرطان عنق الرحم ليس السرطان الوحيد الذي قد يحدث من جراء الالتهابات الجرثومية فهناك أمراضٌ أُخرى مثله كسرطان المعدة والكبد والمثانة. واذا عولجت هذه الأمراض وهي في المرحلة الجرثومية، نمنع أيضًا تطورها إلى المرحلة السرطانية.

ويبقى ان نتذكر أنَّ هذه الإحصائيات التي قامت بها الجمعية الأميركية للسرطان لم تشمل التقدّم العلمي الكبير الذي حصل في معالجة الامراض السرطانية وهي في المراحل المتقدِّمة. لقد أصبح العلاج أكثر فعالية وأصبحت نسبة الشفاء التام أكبر. وذلك بفضل تطوير العلاج المناعي والعلاج المستهدف. فبينما يستهدف العلاج الكيمائي التقليدي جميع الخلايا، السرطانية منها والصحيحة، يستهدف العلاج المستهدف الخلية السرطانية وحدها دون غيرها. أما العلاج المناعي فهو يستهدف الجهاز المناعي في الجسم بحيث يصبح هذا الجهاز قادرًا على التعرف على الخلية السرطانية وتدميرها. وبذلك يكون علاج السرطان قد تخطى المعالجة التقليدية الكيمائية وحدها الى علاجات أخرى أكثر فعالية وأقل مضاعفات سلبية. ولكن هذا لا يعني أنَّ العلاج الكيمائي أصبح غير ضروري. وبرأينا أنَّ العلاج الذي طورناه في مركزنا في هيوستن والذي هو بمثابة مزيج من العلاجات الثلاثة يُشكّل خطوة متقدمة في علاج الأمراض السرطانية وبالأخص تلك التي أصبحت في المراحل المتقدمة، والتي لا تستجيب إلى العلاجات التقليدية.

ونحنُ لا نذيع سرًّا إذا قلنا أنّ المعرفة العلمية المعمول بها اليوم والتي هي في خدمة البشر، هي جُزءٌ صغير من المعرفة العلمية التي نمتلكها من جراء الأبحاث العلمية. إن المسافة بين المعرفتين كبيرة جدًا، ولذلك كان الانتصار على السرطان بطيئًا. أما إذا أردنا الانتقال من المكان الذي نحن فيه اليوم إلى المكان الذي يُمكننا أن نكون فيه غدًا، يجب إزالة الحواجز الكبيرة التي تمنع هذا الانتقال. وأهم هذه الحواجز هي:

  1. قضية الصحة. إنَّ هذه القضية ليست الأولى على سلم الأولويات لدول العالم بما فيها الدول النامية والمتقدمة، فهي في الحقيقة في أسفل هذا السلم. وهنا لا بدّ لنا أن نسأل، وهل هناك حق يجب أن تؤمنه الدولة للمواطن أهم من الحق في الحياة؟ الحق أن يحيا. إنَّ الحقَّ في الحياة يمر إلزاميا في الحق في الصحة. والحق في الصحة ليس محدودًا بتأمين العلاج عند المرض، بل يتعدّاه الى ما هو أهم، وهو تامين الوقاية من المرض. ملايين من الأطفال والمرضى يموتون لأنهم لا يملكون الحق في الصحة. ومن هنا نطالب بتحديث شرعة حقوق الانسان ليصبح الحق في الحياة هو أهم حق للإنسان. إنَّ المريض الذي يواجه الموت لا يكترث بتاتًا إلى الحق في الحرية أو الحق في التعليم. يهمّه أن يعيش. على المرء أن يحيا أوّلًا قبل أن يتمكن من ممارسة الحقوق المنصوص عنها في وثيقة الأمم المتحدة. وعندما نقوم بتقييم دولة أو نظام سياسي يجب أن يكون هذا التقييم بناء على احترام الدولة لحق المواطن في الحياة. إنَّ الدولة التي لا تحترم هذا الحق، لا تحترم الانسان.
  2. إرتباط الصحة بالنظام السياسي. إنَّ قضية الصحة تعلو فوق كل قضية أخرى. إنها تعلو إلى الإنسان، كانَ مَن كان هذا الانسان. إنها قضية ترتبط بالحضور الكياني المقدس للإنسان الفرد. لذا يجب فك الارتباط بين الصحة والسياسة، بحيث تصبح مسؤولية صنع السياسات الصحية منوطة بعلماء، ليس بسياسيين؛ بخبراء، ليس بقليلي المعرفة. لقد عملتُ كعضو في لجنة استشارية للرعاية الصحية للرئيس جورج بوش (الأب) وللرئيس بيل كلينتون؛ وتعلمتُ من هذه التجربة الضرر الفادح الذي يحدثه ارتباط الصحة بالسياسة. فالسياسي يريد مصلحته الشخصية أوّلًا، قبل أن ينظر إلى مصلحة الناس العاديين.
  3. هيمنة شركات التأمين الصحي على قرار الطبيب. لقد أصبح من الصعب جدًا أن يتلقّى المريض، وخصوصًا المريض بالسرطان، أفضل العلاجات بسبب التكلفة المالية. إنَّ هدف الطبيب وهدف الشركات هما خطان لا يلتقيان. فالطبيب يودّ أن يعالج مريضه بأفضل علاج، أما شركات التأمين فهي تضغط لكي يعالج المريض بأقل كلفة ممكنة. هذا التعارض في الأهداف يشكل تحد كبير لممارسة الطب ولجودة العلاج.

إن الصحة هي هبة من الله. ولكي نُمجّد الله ونحترم الانسان، يجب المحافظة عليها. ويجب ان نجعلها من الايمان. ليبارك الله هذا العالم؛ ويباركنا.

  • الدكتور فيليب سالم، طبيب وباحث وأساذ ورجل دولة عالمي في طب السرطان، يعمل كمدير فخري لأبحاث السرطان في مستشفى سان لوك الأسقفية في هيوستن، وهو رئيس “مركز سالم للأورام السرطانية”.
  • خصَّ البروفسور سالم “أسواق العرب” بهذا المقال لمناسبة اليوم العالمي للسرطان الذي يصادف اليوم (4 شباط/فبراير).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى