تينُوس الميثولوجيا: حكايةُ الرُخام والإِزميل (2 من 3)

حتى موقف الباص في تينوس هو بالرُخام الأَبيض

هنري زغيب*

في الجزء الأَول من هذه الثلاثية أَوردتُ نبذة عن تينوس Tinos، الجزيرة اليونانية التي فيها أكثر مقالع الرُخام التي صدر منها عدد كبير جدًّا من التماثيل والأَنصاب خصوصًا في تينوس وجزر أُخرى، وفي اليونان عمومًا.

في هذا الجزء الثاني أَحصُر معظم النص في بلدة معينة من جزيرة تينوس، هي بيرغوس التي هي في ظاهرها متحف للرُخام في الهواء الطلق، وما فيها وما صدر فيها من أعمال هي من أجمل المنحوتات والتماثيل قديمًا في تاريخ هذا الفن.

الإِرث الرُخامي

كان للرخام ونحاتي تينوس دور عظيم في بَلْوَرَة الثقافة اليونانية عمومًا والأَثينية خصوصًا، حتى أَن الأَبنية الـمُشادة بين 1960 و1980 كانت رخاميةً في معظمها، تَضُم أَحواضًا رخامية، ومعظمُ شوارع الضواحي زاخرة بالتماثيل الرُخامية. وحاليًّا يعمل الجيل الثالث من البنائين التينوسيين، وفق التقنيات القديمة ذاتها، على ترميم جزء كبير من البارثينون، وهو معبد إغريقي قديم على جبل أكروبوليس في أثينا، بُنيَ بين 447 و432 ق.م. ويعتبر في التاريخ القديم والحديث من أفضل نماذج العمارة الإغريقية القديمة.

جلسة في ورشة عمل للنحت في الرُخام

متحف في الهواء الطلق

أَصبحت الرُخاميات الفنية تعبيرًا ثقافيًّا أَوَّلَ عن هوية جزيرة تينوس، وخصوصًا في بيرغوس Pyrgos، وهي أَكبر بلدة في الجزيرة، ويسمِّيها النُقَّاد “متحف الرُخام في الهواء الطلق” لكثرة ما فيها من تماثيل منْتثرة بين معظم أَنحائها: في البيوت البيضاء الصقيلة، في الساحات العامة، في الأَقواس فوق الشوارع، في النُتُوءَات الهندسية النافرة، في الأَنصاب الموزعة، في أَعتاب الأَبواب، في فُتحات النوافير وعيون الماء، جميعها بالرُخام الأَبيض المحفور بدقَّة حِرَفية ومهارة مدهشة وإِيحاء دائم بالخصوبة والخلود.

من هنا أَنَّ في معظم أَنحاء البلدة وُرَشَ عمَلٍ متواصلةً لتعليم الجيل الجديد فن النحت في الرُخام. وعند انتهاء كل ورشة عمل، يُهدى المتدرِّبون الناجحون لقَب “معلِّم محترف للنحت في الرُخام”، ومع اللقب ينال علبة فيها أَدوات النحت ومعدَّاته. ويلفت في السنوات الأَخيرة أنَّ ختام ورش العمل بدأَ منذ فترةٍ يشهد عددًا وافرًا من النساء النحَّاتات، ما يَشي بولادة جيل جديد من النحت النسائي الحامل حنانًا وأُنوثة في المقبل من الأَعمال.

على لائحة اليونسكو

لافت آخر: في كل أُسرة تقريبًا من أَهالي بيرغوس يتَّجه فرد من الأُسرة إِلى حرفة النحت في الرُخام. فكأَن في الحامض الجيني من كل مولود جديد أَنْ يُتقن وراثيًّا هذه الحرفة، وهكذا تنتقل من جيل إِلى جيل. وربما لهذه الظاهرة بلغَت أَهمية بيرغوس أَنْ أَدرجتْها منظمة اليونسكو سنة 2015 على “لائحة المدن الممثِّلَة التراثَ الإِنساني الثقافي غير المادي”. وهي بادرة جاءت نتيجة تاريخ طويل في 60 سنة من العمل اليومي الدؤُوب. فـ”مدرسة بيرغوس للفنون الجميلة” تأَسست منذ 1955، تابعةً وزارة الثقافة في الحكومة اليونانية، وتُمَوِّلها “مؤَسسة تينوس للفنون”. وفي مناهج المدرسة موادُّ ذات ثلاث سنوات لتدريس النحت في الرُخام، والرسم الهندسي، والرسم التشكيلي، وتاريخ الفن. وأَول طالبَين متخرِّجَين متفوِّقَين سنويًّا في كل دورة، يُخوَّلان الانتساب إِلى “معهد أثينا للفنون الجميلة” بدون امتحان دخول.

دقَّة الإِزميل بقراءة النحت في الرُخام

متحف الحِرَف اليدوية الرخامية

وفي بيرغوس كذلك “متحف الحِرَف اليدوية الرُخامية”، يضمُّ مجموعاتٍ دائمةً من القطَع المدهشة البراعة في النحت. تَـمَّ افتتاحُه سنة 2012 في اليوم السنوي العالمي للنحت (24 نيسان/أَبريل) بدعم مباشر من “مؤَسسة بيرغوس الثقافية”. وكان هذا الدعم مفيدًا لتجديد الأَدوات وتحديث الآلات وتبديل المعدات القديمة المختصة بالنحت في الرُخام، ما ساهم في تسريع الإِنتاج وتسهيله في أَيدي البنائين والنحاتين على السواء.

يدٌ ماهرةٌ وإِزميل يلبي البراعة في محاكاة الرُخام

أَعلام من بيرغوس

بين أَعلام النحت المعروضة أَعمالهم في المتحف: ميكاليس كوسكوريس (1886-1971)، يوانيس لامباديتيس (1856-1920) وابنه إِيفريفياديس.

أَختار منهم هنا أَبرز ثلاثة نحاتين من جزيرة تينوس:

يوانيس فيليبوتيس: هو من سلالة النحات اليوناني الشهير ديميتريوس فيليبوتيس (1839-1919). من هنا أَن يوانيس يكمل تقليد أُسرته الفنية، مشتغلًا في محترفه الحديث وسط العاصمة أَثينا. وهو يحمل اسم جدِّه النحات الذي ولد في بيرغوس سنة 1908 ونشأَ مكملًا فن العائلة نحتًا في الرُخام، فافتتح محترفًا له سنة 1937 واشتهر فيه كأَسلافه. ومن أَبرز أَعماله: “وجه المسيح” في دير كِشْروفوني (على تلَّة من 650 مترًا، تأَسس في القرن الثاني عشر)، ونال على إِنجازه علبتَين من السجائر  وكيسَ طحين. ونحت أَيضًا الجرس الكبير في برج كنيسة “سيدة جزيرة تينوس” (بين 1951 و1956)، ويبلغ نحو 30 مترًا ويبلُغ  نحو 50 مترًا مكعبًا من الرُخام الأَبيض. ثم جاء ابنه سْتْراتيس يكمل مسيرته، لكنه في الثامنة عشرة غادر بلدته بيرغوس وانتقل إِلى أَثينا ملتحقًا بمعهد الفنون الجميلة فيها، ثم أَسس محترفه الخاص في العاصمة، وأَنجز فيه عشرات الأَعمال التحتية، يعاونه ابنه يوانيس (الحفيد).

ماذا بعدُ، أَخيرًا، عن جزيرة تينوس وموهوبيها؟

وكيف يتلاقى فيها نحاتو العصر وكبار نحاتي الأَمس؟

هذا ما أُعالجُه في الجزء الثالث الأَخير من هذه الثلاثية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى