تينُوس الميثولوجيا: حكايةُ الرُخام والإِزميل (1 من 3)

ديميتريوس فيليبوتيس: تمثال “الحطاب”

هنري زغيب*

لا تزال الميثولوجيا اليونانية ترفد الآداب والفنون منذ أَقدم عصورها حتى اليوم. وفي الميثولوجيا أَماكن ومُدُن جرَت فيها أَحداث أَو سكَنَتْها آلهة وأَنصاف آلهة.

من تلك المواقع: جزيرة تينوس Tinos التي اشتُهِرت بأَحداث من تلك الأَساطير جرَت على أَرضها. لكنها اشتُهِرَت، ولا تزال حتى اليوم، برخامها الأَبيض الرائع الذي تناولَتْه أَزاميل النحاتين مُطْلِعَةً منه أَجمل المنحوتات والتماثيل قديمًا في تاريخ هذا الفن.

سأَذكر في هذه الثلاثية معلومات عن تينوس الجزيرة، وعمَّا صدَر فيها من روائع نحتية، وخصوصًا عن سر هذا الرُخام الذي يكاد أَن يكون فريدًا من نوعه في العالم.

وهنا الجزء الأَول من هذه الثلاثية:

بين الأُسطورة والتاريخ

في الموروث المحلي أَنَّ الاسم عائد إِلى الأَميرة “تينوس” (تحوير من الاسم الفينيقي “تُنُّوث” ويعني الحيَّة). وفي الميثولوجيا اليونانية أَن بوزيــيِــدون إِله البحر أَرسل إِلى هذه الجزيرة الجميلة سربًا من اللقالق كي تنقضَّ على مئات الحيات التي كانت تجتاحها وتهدِّد سكَّان الجزيرة. وشكرانًا من أَهاليها، بَنَوا فيها هيكَلَين لِــبوزيــيِــدون وزوجته الأُسطورية آمفيتْريت، وكرَّسُوهما راعيَـي الجزيرة.

وفي التاريخ أَنَّ الاسم عائد إِلى الملِك “تينو”، وهو أَول من سكَنَ الجزيرة وكان قائدَ مجموعة من الإِيونيين (وهم أَهلُ إِحدى أَربع قبائل إِغريقية قديمة) جاؤُوا من مدينة كارياتي (جنوبي إِيطاليا).

جيانوليس شاليباس: تمثال “المرأَة النائمة”

تينوس واحةُ النحت الساطعة

منذ العصور السحيقة، اشتُهِرَت جزيرة تينوس برُخامها وبفَن نحاتيها في الرُخام. وكان الإِغريق، منذ القِدَم، مشهورين بأَن نحاتيهم هم الأَعلى إِبداعًا في العصور السحيقة، خصوصًا بنعومة الرُخام الذي به نحتوا تماثيل آلهتهم أَو أَشخاصهم، وبالدقة في المقاييس الفنية التي نادرًا ما تحتمل الخطأ.

من أَبرز نتاجهم النحتي: رُخام البارثنون (بين 447 و438 قبل الميلاد)، وتمثال إِلهة النصر في جزيرة ساموتراس (نحو سنة 190 قبل الميلاد)، وتمثال “عذراء أَثينا” (بين 200 و250 م.) اكتُشِفَ سنة 1880، والرائعة النحتية الخالدة “فينوس دو ميلو” (بين 150 و125 ق.م.).

“رواق أَثينا الطويل” بناءٌ كامل بالرخام الأَبيض

زوغة الرُخام من تينوس

في حديقة أَثينا الوطنية العامة، تـنـتـثـر بين الشجر تماثيل رخامية جميلة، بينها تمثال “الحطَّاب” (1908) للنحات اليوناني الشهير ديمتريوس فيليبوتيس (1839-1919) والموضوع في الحديقة منذ 1958، إلى جانب تمثاله الآخَر “حاصد القمح” الذي كان نَحَتَهُ سنة 1870.

وفي مكان آخرَ، وسْط المدينة خلف معبد زوس الأُولمبي: أَول مقبرة عامة في أَثينا (1837) وفيها عدد من التماثيل الرُخامية، بينها تمثال “المرأَة النائمة” (1878) للنحات اليوناني جيانوليس شاليپاس (1851-1938)، وهو – مع النحات الآخَر ديميتريوس فيليبوتيس – من مدينة بانورموس في جزيرة تينوس.

فيدياس: عبقريُّ النحت اليوناني

منذ فيدياس

في أُسطورة قديمة متداوَلة محليًّا أَن سكان جزيرة تينوس تعلَّموا النحت في الرُخام من فيدياس (480 – 430 ق.م.) وهو كبير نحاتي عصره. وفي الميثولوجيا أَنه كان قاصدًا جزيرة ديلوس، لكنَّ سفينتَه جنحَت بفعل عاصفة قوية، ورسَت على شاطئ تينوس، فأَقام فيها ردحًا من السنوات، وعلَّم أَهلَها النحت في الرُخام الأَبيض، والرُخام الأَسْوَد الـمُخضَوْضِر، وهو في تينوس يتميَّز عن الرُخام في أَيِّ جزيرة يونانية أُخرى. وذات فترة، كانت تينوس – مع جزُر أُخرى قريبة ومحيطة – تحت سيطرة جمهورية البُندقية (بين 1207 و1715) عقب الحقبة الرومانية. وفي تلك الفترة بالذات شهدت الجزيرة عصرها الذهبي رسمًا ونحتًا وفنونًا أخرى.

حين احتلَّتها السلطنة العثمانية سنة 1715، كان فيها نحاتون ماهرون فرُّوا من الحكْم العثماني، فراح يجتذبهم أَكثرُ من مكان، نحو دول البلقان وجنوبي روسيا وبعض بلدان آسيا الصغرى. لكن احتلال السلطنة العثمانية ظلَّ خارج الانصياع، ولم يترك أَثره في فنون تينوس الشعبية. وما إِن استقلّت اليونان عن تركيا سنة 1829 حتى رجعَت الحركة الفنية إِلى استعادة نشاطها، بفضل نحاتي جزيرة تينوس في الرُخام. وحين انتقلت عاصمة اليونان سنة 1834 من مدينة نافبْلِيو إِلى مدينة أَثينا، دعت الدولة نحاتي جزيرة تينوس فجاؤُوا أَفواجًا إِلى العاصمة الجديدة، ونحتوا لَها وفيها أَجمل التماثيل الرُخامية الكلاسيكية التي ما زالت حتى اليوم تزيِّن مختلف أَرجاء المدينة.

رُخام تينوس في كلّ مكان

وعدا الشوارع العامة والأَماكن العامة، انتشرت كذلك تماثيل النحاتين التينوسيين (أَهل جزيرة تينوس) في رحاب جامعة أَثينا، وأَرجاء مكتبة أثينا العامة، ومداخل المتحف الوطني الأَثري، وباحة مجلس النواب القديم. وفي منتصف الخمسينات من القرن الماضي استعانت الدولة ببنَّائي تينوس وأَبنائهم لإِعادة بناء “رواق أَثينا الطويل ذي العمُد” وإِرجاعه كما كان في طرازه السحيق. وفي منتصف السبعينات الماضية توجَّهوا إِلى الأَكروبوليس لإِعادة هيبته وبهائه.

ما الذي اشتُهر أيضًا في جزيرة تينوس؟

ومَن أَبرز نحاتيها في الرُخام؟ وما أَشهر تماثيلهم؟

هذا ما أَعرضه في الجزء الثاني من هذه الثلاثية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى