القدّيس

راشد فايد*

لم يكن ينقص رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، إلّا أن يختمَ مؤتمره الصحافي، أو بيانه السياسي، يوم الأحد، بإعلان نفسه قدّيسًا، مهمته الطوباوية حماية لبنان وشعبه من كل سوء يحوكه الآخرون من اللبنانيين. فهو يُصَوِّرُ نفسه كأنه هبط من سماء الطهارة فجأةً وفوجئ بحال البلاد، ولحظ مكامن عللها في دقائق، وربما ثوانٍ، واستوعب مراميها بذكاءٍ مُذهل، على ما تشي أقواله، من جهة، ورهانه على ضعف ذاكرة اللبنانيين من جهة أُخرى. فهو يوحي لنا بأنه، في السنوات الست الماضية، كان مُتَنسّكًا، مُتعبّدًا في هيكل الوطن، مُنصَرفًا عن مباهج الحياة، وثرواتها وعقاراتها، مُنكَبًّا على درس كيفية تفكيك خطط “المنظومة” الحاكمة، وردِّ مؤامراتها عن لبنان. فهذه كانت تلتهم ثروات البلاد والعباد بينما هو كان مُنكَبًّا على التأمّل والتفكير في إنقاذ الوطن.

من “المفاجآت” التي صدمته، بحسب إعلانه إياها، أنّ “حاكم مصرف لبنان المركزي رئيس عصابة، وهارب من العدالة ويتلاعب بالدولار” ناسبًا هذا التعريف إلى القضاء الفرنسي. ومنها أيضًا أن قائد الجيش، العماد جوزف عون، “يُخالف قوانين الدفاع والمحاسبة العمومية ويأخد بالقوّة صلاحيات وزير الدفاع ويتصرّف على هواه بالملايين بصندوق للأموال الخاصة وبممتلكات الجيش”. بينما خصَّ رئيس الحكومة، نجيب ميقاتي، بأنه “يصدر قرارات غير قانونية وآخرها وضع مديرين عامين بالتصرّف، وقبلها عقد جلسات لمجلس الوزراء”.

يتجاهل الحالم برئاسة الجمهورية أن “العلاج” لانعقاد المجلس هو في انتخاب رئيس للبلاد، وهذا قرار ليس بيد نجيب ميقاتي، الذي يعرف أن الصهر يعرف ذلك ويتجاهل الأمر لاستنهاض الغرائز الطائفية. يتجاهل كذلك أن “رئيس عصابة البنك المركزي”، على مؤدى وصفه،  جدّد له ميشال عون نفسه في أيار/مايو 2017، أي بعد سنة من توليه الرئاسة، ولم يجبره أحد على هذا الاختيار. وكان سلامة عُيِّنَ حاكمًا في العام 1993 ومُدِّدَ له في الأعوام 1999 و2005 و2011 و2017، وطبيعي أن يكون قائد “الإصلاح والتغيير” قد تابعه وتحرّى عنه من منفاه الباريسي، فهل كان استنتاجه إيجابيًا شجّعه على التجديد له، ثم انغمس في الفساد عندما غاب الناطور عن حقل بعبدا؟

المشهد العوني نفسه، تقريبًا، مع قائد الجيش، المُرَشَّح الطبيعي لرئاسة الجمهورية كما كان حال سابقيه، منذ تجربة الأمير اللواء فؤاد شهاب، الذي أدخل إصلاحات على النظام السياسي ودور الدولة الرعائية والقادرة في البنية الوطنية، ما جعل اللبنانيين يقتنعون بأن الجيش، أيًّا يكن قائده، ضامن وحدة الوطن وتماسك البلد عند الملمّات الوطنية، وما أكثرها. والقائد الحالي تولّى القيادة بعدما اختاره العم الرئيس ميشال عون،  ولم يفرضه أحد عليه، وإذا كان ما ينسبه إليه من مخالفات مسلكية وقانونية صحيحًا، فإنه بالتأكيد لم يبدأ مع مغادرة الرئيس القوي قصر بعبدا، أفلا يكون في ذلك مؤشر إلى أن صحوة ضمير جبران وليدة هاجس الرئاسة؟

تحدث باسيل في كل ما يشتهي من أمور: انهيار مالي واقتصادي واجتماعي وصحّي وتربوي ومؤسّساتي وقضائي وقانوني، وفق تعداده، وتخوّف من أنّ يتحوّلَ إلى أمني ومن “الحقن لتبرير وصول مرشّح الحاجة الأمنية”. لم يغفل عن أي أمر يُنبئ بيومٍ أسود سيحل على اللبنانيين، لكنه لم يُسمِّ من يَحولُ دون انتخاب رئيسٍ للجمهورية، ويُفقد مجلس النواب النصاب ليفرض مرشحه، فهو يتجاهل أن تغييب رئيس للبلاد هو لبّ الأزمة، فكيف وهو يستخدم ذلك لاستنفار العصب الطائفي تحت عنوان “حقوق المسيحيين”.

يأمل اللبنانيون برئيسٍ يجمعهم، بحكمةٍ وتبصّر، على عناوين واحدة، بينما  يصرّ المرشح الدامع على حال الوطن أن يخاطبهم بالمفرق، ويدعو زعيم أكبر كتلة نيابية مسيحية، فعلية، إلى التفاهم معه، و”إن لم نتفق، لا يحق لأحد أن يتخطانا، بانتخاب رئيس للجمهورية من دون المسيحيين”. وهنا يلغي من التعداد الوطني، اللبنانيين الآخرين، والمسيحيين من غير تياره، ويمنح الأحزاب حصرية تمثيل الطوائف، وتاليًا رمي ما يفوق ثلث اللبنانيين خارج المشاركة في الحياة العامة والمعترك السياسي، حتى كناخبين.

يفتقد لبنان حقوق المواطنين، مسلمين ومسيحيين، ومطلعها الإلتزام بالقوانين، ورأسها الدستور، فمن يريد من لبنان وطنًا ودولة، لا يُميّز بين “كائناته” البشرية على أساس الإيمان الديني، ولا يُحابي حزب السلاح على حساب الاستقرار الوطني، وفيما يقفز عن ارتكاباته في السياسة، في الداخل ومع الخارج، يُعلي مزاعم التطهر والتبرّؤ، ويتغاضى عما جنت يداه، من قضية “حراس الأحراج”، إلى “فاطمة غول” وأخواتها، وسدود المياه التي باتت “في ظل أفكاره، مواقع أثرية.

عاد باسيل إلى شعار عمّه “أنا أو لا أحد” حسب المسلسل المكسيكي الشهير، أو على قول الموفد الأميركي العام 1988 ريتشارد مورفي

“مخايل الضاهر أو الفوضى” واليوم عند جبران “أنا أو الفوضى”.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى