أينَ تَتَّجِهُ الرياحُ في المنطقة في العامِ الجديد؟

الدكتور ناصيف حتي*

شَهِدَ الشرقُ الأوسط في العام المُنصَرِم عددًا غَيرَ قليلٍ من القِمَمِ المُختلفة التي شاركت فيها أطرافٌ عربية وإقليمية ودولية مختلفة. بعضُ هذه القمم عَكَسَ تَبَلوُرَ تفاهماتٍ سياسية جديدة بين الأطرافِ المُشارِكة أو الرغبةَ في بَلوَرَةِ وتَعزيزِ تفاهماتٍ قائمة، وكذلك أشكالًا مختلفة من التعاون بين الأطراف ذاتها بصِيَغٍ عديدة. ومما يؤشِّرُ إليه بعضُ هذه القمم حدوثَ اصطفافاتٍ جديدة في الشرق الأوسط .

وتبدو المنطقة التي تَعيشُ على صفيحٍ ساخنٍ من الأزمات والنزاعات والحروب المختلفة الأشكال والأطراف وكأنّها في حالةِ تَجاذُبٍ بين ديناميتين مُتناقضتين: واحدة تَعكُسُ اتجاهًا لبلورة تفاهماتٍ لاحتواءِ الخلافات والنزاعات، والعمل التدريجي عبر ديبلوماسيةٍ مُتعدّدةِ الأشكالِ والأوجه على تسويتها، أو في مرحلةٍ أولى على منع تصعيدها. والأُخرى تُظهِرُ أنَّ هناك تصعيدًا مباشرًا بين أطرافِ كلِّ نزاعٍ عبر السلوكية على الأرض، أو عَبرَ الخطابِ السياسي والعناوين والمطالب التي تَرفَعُ وتؤدّي الى التصعيد .

روسيا تُحاولُ إحداثَ اختراقٍ في ما يتعلّقُ بالعلاقات السورية-التركية من خلال الدفع للتطبيع التدريجي لهذة العلاقات. يجري ذلك سواءً على مستوى القضايا والمطالب التي تُطرَحُ ضمنَ لعبةِ الشروط المُتبادَلة وعَمَلِ الوسيط الروسي على إيجادِ القواسم المُشتَرَكة للنجاح، أو على صعيدِ العَمَلِ لرَفعِ مستوى المشاركة بين الطَرَفَين المَعنيَين لتصل في نهايةِ المطاف إلى مستوى القمة. مَسارٌ أمامهُ العديد من الصعوبات والتعقيدات لكنه يَعِدُ بتحقيقِ إنجازاتٍ واختراقاتٍ وبالتالي بَلوَرَةِ تفاهماتٍ عمليّة ولو دون المطلوب في سرعتها وحجمها بالنسبة إلى الوسيط الروسي. ولكن إحداثَ تَقَدُّمٍ في هذا المسار، كما يدلُّ العديد من المؤشّرات، ستكون له تداعيات مهمّة على صَعيدِ مُستَقبلِ الصراع في سوريا وحولها.

على صَعيدِ ملفٍّ ساخنٍ آخر في المنطقة، يبدو أنَّ الاتفاقَ النووي (المعروف ب”اتفاق 5 زائد 1″ أو “خطة العمل الشاملة المشتركة”) قد دَخَلَ مرحلةَ الموتِ السريري. لا يُوجَدُ طرفٌ يَوَدُّ تحمّلَ المسؤولية في الإعلان عن ذلك وبالتالي مسؤولية البحث عن البديل. لكن التصعيدَ في خطابِ المواجهة الغربية-الإيرانية، خصوصًا غداة ما شهدته إيران من أحداثٍ داخلية (أيًّا كان الخلاف حول حجمها وطبيعتها وتداعياتها) والتوتر الغربي-الروسي بشكلٍ خاص بسبب الحرب الأوكرانية، وكذلك الغربي-الصيني، ساهمَ في إعادة هذا الملف الاستراتيجي الى المربع الأول. ويَظهَرُ هذا في تصعيد التوتر في العلاقات بين الطرفَين الغربي والإيراني مع انعكاساتِ الأمر على المواقف من النقاط الساخنة في الإقليم. ولكن رُغمَ تزايدِ الحربِ الكلامية بين الطرفَين تبقى إمكانيّةُ احتواءِ أيِّ تصعيدٍ فعليٍّ قائمةً عَبرَ التوَصّلِ إلى تفاهماتِ الحَدِّ الأدنى، ولو بشكلٍ غَيرِ مُباشر، لمنع حصول انفجارٍ ليس في مصلحة أحد، في ظلِّ غيابِ الحلولِ المطلوبة.

مَسألةٌ أُخرى تَشهَدُ سخونةً وقابلة للانفجار أو للاحتواء والتسوية تكمن في الأزمة الليبية حيث يزداد الصراع الدولي والإقليمي بين الأطراف الرئيسة الدولية والإقليمية الموجودة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر على الساحة الليبية. تُغذي وتتغذّى هذه الأطراف على صراعاتِ المُكوّنات الأساسية الليبية المختلفة.

الواقع أن ليبيا هي الآن على مُفترَقِ طُرُقٍ بين محاولاتٍ حثيثة لإحياءِ عمليّة الحلِّ السياسي للأزمةِ الشديدة التعقيد بسبب العوامل التي أشرنا إليها، وبين احتمال العودة إلى المربع الأوّل، أو انفجار الصراع إذا بقيت الأمور على ما هي عليه، ولم تتوفّر بالتالي المظلّة الدولية-الإقليمية الفاعلة والعاملة للتسوية السياسية الشاملة في البلاد. الجاذبية الجيوستراتيجية لليبيا بسبب موقعها العربي-الإفريقي-المتوسّطي، وكذلك جاذبيتها الجيواقتصادية بسبب ما تملكه من غاز ونفط تزيد من حدّة وحجم التنافس حول “قالب الحلوى” الليبي.

ولا بدَّ من التذكير أيضًا بالحرب او الحروب اليمنية المُستمرّة بأبعادها الإقليمية التي تُساهِمُ في صعوبةِ التوصّلِ إلى حلٍّ سياسيٍّ شاملٍ ودائم.

حروبٌ وصراعاتٌ لها مُسبّباتها الخاصة بها ولكنها مُترابِطة بتطوّرها بسبب صراع المصالح بين الأطراف الخارجية من إقليمية ودولية حول النقاط الساخنة وتلك المشتعلة في المنطقة .

فهل تَرتَبِطُ الحلولُ لهذه الصراعات لإعادة الاستقرار إلى المنطقة بمنطق “الصفقة الكبرى” كما يقول البعض، أو بمنطقِ التوصّلِ إلى “تفاهماتٍ للتهدئة” في كلِّ من الملفّات الساخنة، بهدَفِ التوصّلِ إلى حلولٍ وتسوياتٍ مُستقرّة لاحقًا؟

كلّها أسئلة وتساؤلات على الأجندة الإقليمية هذا العام حول مستقبل مسار النزاعات والصراعات القائمة والآتية في الشرق الاوسط والمُتداخِلة والمُترابِطة بأشكالٍ مختلفة. فغيابُ الحلولِ والتسوياتِ سيؤدّي إلى مزيدٍ من الفوضى والأزمات والفقر والبؤس التي تساهم بدورها في تغذية التربة الخصبة أساسًا لهذه الحروب والصراعات التي تشهدها المنطقة بأشكالٍ مختلفة.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى