الحربُ في أوكرانيا ستَنتَهي بصفقةٍ وليس برايةٍ بيضاء

كابي طبراني*

هناكَ حقيقةٌ مُحزِنة  بدأت تترسّخ: لن تنتهي الحرب الروسية-الأوكرانية في أيِّ وقتٍ قريب. كان هذا الاحتمالُ وَرَدَ أصلًا مع حلول منتصف العام 2022، لكنَّ الهجومَ المُضاد الهائل الذي شنّته أوكرانيا في أيلول (سبتمبر) أدّى إلى مكاسب سريعة، ما رفعَ الآمال في الغرب بأن هناك طريقًا سريعًا ومُمكنًا إلى النصر. هذه الآمال تتلاشى الآن.

لاحظَ الخبيران السياسيان “جيم غولدجير” و”إيفو دالدر” في مقالهما أخيرًا في مجلة “فورين أفّيرز” الأميركية أن أوكرانيا ستواجه صعوبةً كبيرة في استعادة جميع أراضيها، بما فيها شبه جزيرة القرم، “حتى بمساعدةٍ عسكرية غربية أكبر”، لأن ذلك “سيتطلّب انهيار الدفاعات الروسية المَحفورة والراسخة والمُعزَّزة”. وبالمثل، قال المارشال الجوي البريطاني المتقاعد “إدوارد سترينغر” لصحيفة “وول ستريت جورنال”: “من خلال الاستمرار في الدعم ب”التنقيط” بما يكفي فقط حتى لا تخسر أوكرانيا، فإن ما يفعله الغرب هو مجرّد إطالة أمد الحرب”.

وقد أكَّدَت زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأخيرة لواشنطن هذه النقطة: كان السبب الرئيس للرحلة هو تعزيز الدعم الأميركي المستمر، والذي أشار إليه زيلينسكي بأنه “استثمارٌ” في خطابه أمام جلسة مشتركة للكونغرس الأميركي. لم يكن ليُقدّم هذا الخطاب لو كان يعتقدُ أن الحربَ ستنتهي قريبًا.

ومع ذلك، حتى لو استمرّت الحرب لبعض الوقت، فإنها ستنتهي يومًا ما. لكن كيف ستبدو هذه النهاية؟ نصرٌ كاملٌ لأوكرانيا وانهيارٌ روسيٌّ كامل؟ روسيا تُعيد تجميع صفوفها وتُحَوِّلُ تيار ومسار الحرب؟ مأزقٌ دائمٌ يترك كلا الجانبين مُنهَكَين، ولكن، مثل الحرب الكورية، من دون سلامٍ رسمي؟

في جميع الاحتمالات، ستكون النهاية تسوية تفاوضية، على الرغم من أن شروط تلك التسوية ما زالت غير معروفة. ربما تقبل أوكرانيا باحتفاظ روسيا بالسيطرة على شبه جزيرة القرم، إن لم يكن على دونباس. أو ربما تتخلّى روسيا عن معارضتها لانضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). هذه والعديد من الاحتمالات الأخرى يمكن تصوّرها على طاولة المفاوضات.

لكن وجود الاحتمالات على الطاولة لا يكفي لإنهاء الحرب. يجب أن تكون روسيا وأوكرانيا على استعداد للجلوس معًا على تلك الطاولة، وهما بعيدتَان من القبول بذلك حاليًا. في الواقع، بالنسبة إلى العديد من المراقبين، من المُرَوِّعِ الاعتقاد بأن أوكرانيا، التي كانت ضحيّةَ هجومِ روسيا غير المُبَرَّر، يجب أن تمنح موسكو أيّ شيء من أجل إنهاء الحرب. لكن في جميع الاحتمالات، سيتم التوسّط في صفقةٍ تُنهي الحرب، مع تقديمِ تنازلاتٍ من الجانبَين.

في الواقع، تتوافَقُ التسوية التفاوضية للحرب مع السجلِّ التاريخي. يميلُ الجميع دائمًا إلى التفكير بأنَّ الحروبَ تنتهي بالطريقة التي انتهت بها الحرب العالمية الثانية في كلٍّ من أوروبا وآسيا: باستسلامٍ غيرِ مشروط. لكن هذا ليس هو الحال مع معظم الحروب، بما فيها الحروب الكبيرة.

التسويات التفاوضية أكثر شيوعًا. وقد عَرَفها منذ زمن بعيد كلُّ مَن يَدرُسُ الحروب، سواء كانوا مؤرّخين عسكريين أو خبراء دراسات أمنية. في العام 1916، نشر أستاذ القانون الدولي والمؤرّخ البريطاني “كولمان فيليبسون” (1878- 1958) كتابًا بعنوان “إنهاء الحرب ومعاهدات السلام”، والذي أظهرَ، كما يُوحي العنوان، أن معاهدات السلام التي بموجبها يُقدِّمُ الجانبان تنازلات هي الطريقة التي تنتهي بها الحروب عادةً. لاحقًا بعد أكثر من 60 عامًا، حدّدت العالمة السياسية والناشطة الأميركية المتخصّصة في دراسات السلام والصراع، “بيرينيث كارول”  (1932-1918) الاتجاه نفسه. بعد أكثر من 100 عام، لا تزال النتيجة القائلة بأن الدول تُنهي الحروب بالاتفاق والتسويات صحيحة، على الرغم من أن الدول قد استغنت بشكلٍ متزايد عن توقيع المعاهدات الفعلية. من المرجح الآن أن تنتهي الحروب بنتائج غامضة حيث يمكن للطرفين إدعاء الانتصار، لكن استسلام “الراية البيضاء” الواضح من جانبٍ واحد إلى الآخر لا يزال نادرًا.

ثانيًا، بدأت روسيا هذه الحرب لأنها فضّلت الحرب على صفقةٍ تفاوضية. من النتائج الأساسية التي توصّلت إليها دراسة “التفسيرات العقلانية للحرب” التي كتبها أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد جيمس فيرون، أنه في حين قد يبدو من المعقول أن يبرمَ الطرفان صفقةً ويتجنّبان موتَ وتدميرَ القتال، فإن الحروب تحدث لأن أحدَ الطرفَين –وأحيانًا كلاهما– يعتقد أنه يمكن أن ينتصرَ بسهولة. والنصرُ السهلُ الذي يُحقّقُ كلَّ أهدافِ المُحارب بتكلفة منخفضة هو أكثر جاذبية من اتفاقِ مُساوَمةٍ يضمن فقط بعضًا منها. فقط بعد أن تبدأ الحرب ويكشف القتال أن النصرَ لن يكونَ بالسهولة المُتَخَيَّلة، سيعود الطرفان إلى المساومة.

تتجلّى هذه الديناميكية بوضوح في كيفيةِ تطوّرِ هذه الحرب. شنّت روسيا غزوها بافتراضٍ واضحٍ أنه سيكون نزهة. إن ثبوتَ خطَإِ هذا الافتراض يعني أنه كان على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلغاء الغزو وإعادة قواته إلى الوطن، أليس كذلك؟ لسوء الحظ، ليس من غير المعتاد رؤية المُعتَدين يُضاعفون جهدهم عندما يكون من الواضح أنهم لا يستطيعون الانتصار. غالبًا ما يستمر القادة في الحروب، بدافع القلق من أن الخسارة ستكون مُكلفة من الناحية الانتخابية أو تؤدي إلى مصيرٍ شخصي مُرَوِّعٍ بعد الحرب، أو لأن الجانب الخاسر لا يمكنه أن يثق في أن الآخر سيتوقف عن القتال. في حين أن روسيا لا تستطيع الانتصار، فإنها لن تخسر. بدلًا من ذلك، سوف تصمد إلى أن تصبح أوكرانيا على استعداد للمساومة.

ثالثًا، القتال في طريقه لتحقيق نتيجةٍ غير حاسمة في ميدان المعركة. في حين أن روسيا لن تقبلَ الهزيمة، فإن أوكرانيا ستواجه صعوبة كبيرة في تحقيق النصر، الذي يتمثّل في إخراج القوات الروسية بالكامل من البلاد. في الواقع، يعتقد بعض المراقبين، مثل وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس ووزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غايتس، أن الوقتَ في الواقع هو في صالح روسيا. حتى لو لم يكن الأمر كذلك، فمن المرجح أن تستمر هذه الحرب لفترة طويلة بدون أن يكتسبَ أيٌّ من الجانبين تفوّقًا واضحًا.

لنتأمل الحرب الإيرانية-العراقية في الثمانينيات الفائتة. إستمرّت تلك المواجهة الدامية مدة 8 سنوات، ما أدّى إلى مقتل أكثر من مليون شخص في ساحة المعركة، حتى أصبح الجانبان في النهاية مُستَعدَّين ببساطة لوقف القتال. انتهت الحرب عندما قبل كلٌّ من إيران والعراق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 598، وكانت النتيجة النهائية مشابهة إلى حدٍّ كبيرٍ للظروف التي كانت قائمة قبل اندلاع القتال. هناك احتمالٌ حقيقي بأن تكون نهاية الحرب في أوكرانيا شبيهة بنهاية ذلك الصراع.

من المُسَلَّمِ به أن ديناميكيات الحرب يُمكِنُ أن تتغيّر. على سبيل المثال، فإن الاعتراف بأن هذه الحرب قد تصبح “حربًا طويلة” يُغذّي حملة “حرّروا دبابات ليوبارد”، وهي محاولة لدفع الحكومة الألمانية إلى السماح للدول الأعضاء في “الناتو” بإعادة تصدير دبابات ليوبارد الألمانية إلى أوكرانيا. لكن الظروف الحالية تشير إلى أن النتيجة الأكثر ترجيحًا للحرب هي تسوية تفاوضية، بمجرد أن يُدرِكَ الطرفان في النهاية أن التوصّلَ إلى اتفاقٍ فقط هو الذي يمكن أن يُنهي الأعمالَ العدائية.

هذه التسوية يمكن وينبغي أن تكون بشروط كييف، لا تُملى من قبل حلفاء أوكرانيا الغربيين. لكن هذا هو السبب أيضًا في احتمال أن تكون هذه حربًا طويلة. طالما أنها تتمتّعُ بدعم الغرب، يمكن لأوكرانيا أن تتجنّب الهزيمة، لكنها لن تكون قادرة على تحقيق النصر. في غضون ذلك، لا يمكن لروسيا الانتصار، لكنها لن تقبل الخسارة. يعني هذا المزيج أن هذه الحرب ستستمر بشكل شبه مؤكد، بعد مرور عام على الغزو الروسي. في الواقع، يمكن أن تستمر إلى ما بعد العديد من “الذكرى السنوية” قبل أن يكون كلا الجانبين على استعداد للتسوية. إنه واقعٌ محزن، لكنه يتوافق أيضًا مع ما نعرفه عن الحروب.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى