هجومُ الأحد الأسوَد ضدّ “هذا الشيوعي”

محمّد قوّاص*

وجّهَ فَشَلُ “غزوة” برازيليا صفعةً جديدة إلى كلِّ أحزابِ اليمين المُتطرّف والتيارات الشعبوية في العالم. وإذا ما نهل الرئيس البرازيلي اليميني السابق جايير بولسونارو حراكه وصعوده ووصوله إلى مقاليد الحكم من ظاهرة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في الولايات المتحدة، فإن مُقارنةَ ما جرى في برازيليا بـ”الغزوة” التي جرت ضد الكونغرس في واشنطن ليس مصادفة بل امتدادًا إيديولوجيًا لمدرسةٍ واحدة.

لم يكن الرئيس اليساري لويس إيناسيو لولا دا سيلفا العائد إلى السلطة بعد 12 عامًا من الغياب لينجح في شيطنة تيار خصمه بولسونارو بمستوى ما وفّرته له “هدية” هجوم البولسوناريين على مباني مراكز الحكم في العاصمة البرازيلية. آلافٌ هاجموا في 8 كانون الثاني (يناير)، وبشكلٍ مُنَسَّقٍ ومُبَرّمَجٍ ومُخطّطٍ القصر الرئاسي والبرلمان والمحكمة العليا. بدا الهجوم شعبويًا يشبه ذلك الذي شنّه أنصار ترامب ضد مبنى الكابيتول في 6 كانون الثاني (يناير) 2021. لكن هجوم برازيليا على شعبويته لامس حدود الانقلاب من حيث استهدافه لمراكز السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.

في منطق الأمور لا يمكن لبضعة آلاف أن ينتزعوا السلطة من خلال مهاجمة مبانٍ حكومية سيادية خالية من شاغليها في يوم الأحد. والأرجح أن هذه “الانتفاضة” الغوغائية كانت تهدف، بناءً على مُعطياتٍ ما زالت غير واضحة، إلى إحداث صدمة ينُتظَرُ منها أن تستدعي قطاعات الأمن والعسكر للانضمام إليها. فمنذ الاعلان عن نتائج الانتخابات التي جرت في 2 و 30 تشرين الأول (أكتوبر)، لم يتوقف أنصار الرئيس اليميني السابق عن التظاهر والاعتصام مُجتَمِعين ومُتفرِّقين مُناشدين العسكر التدخّل وإبطال الانتخابات “المغشوشة” التي أتت بـ “هذا الشيوعي” إلى السلطة.

في البرازيل تفوحُ رائحةُ “مؤامرة” شاركت بها أجهزةٌ في الدولة. لم تذهب البولسونارية بخروج بولسونارو من السلطة. لحزب الرجل سطوة داخل البرلمان ويُسيطِرُ على مجالس الحكم في كثير من الولايات. كما أن رجاله والمقرّبين منه يحتلّون مواقع حساسة في أجهزة الدولة. أظهرت الصور عن التقاط رجال شرطة صورًا مع المتظاهرين وكشفت المعلومات عن تلكّؤٍ مَشبوه وتواطؤٍ مُحَتمَلٍ في عدم التدخل السريع من جهة وعدم الكشف المُسبَق لحراكٍ شعبيٍّ كبيرٍ وبهذا الحجم.

تمّت هجمات الأحد الماضي وفق إعدادٍ دقيقٍ تطلّبَ استخدام وسائل التواصل وتمويل وسائل نقل وإدارة تنقل الآلاف من أماكن بعيدة والتوجّه بهم مسافات طويلة صوب المقاصد النهائية. ومع ذلك فإن أجهزة الأمن والمخابرات لم تلحظ شيئًا ولم تَرَ أيّ تحركاتٍ مُريبة. وعلى منوال ما حصل في الكابيتول في واشنطن، فتك المتظاهرون في برازيليا بمباني السلطة التي باتت في عهدة الرئيس الجديد. بدا أن الأمر تحوّلَ إلى فضيحةٍ اضطرّت بولسونارو نفسه المتواجد في فلوريدا أن يُدينَ أعمال التخريب “متفهّمًا” حوافز المتظاهرين ومؤكّدًا على حقّهم في حرية التعبير.

تَصَرَّفَ بولسونارو في التعليق على ما حصلَ في برازيليا على منوال ما فعله ترامب بشأن ما حصل في واشنطن. بدا أن تحفّظ بولسنارو يعترف بفشل عملية لم تكن عفوية ولم تكن لتجري من دون رعايته ومباركته ومن دول تمويل ومموّلين وعد دا سيلفا لولا بتعقّبهم. والواضح أن “الفضيحة” دفعت مسؤولين كبار من المحسوبين على الرئيس السابق، بمن فيهم رئيس حزبه، “الحزب الليبرالي”، كوستا نيتو، للتبرُّؤ من الإثم وحرمانه من أيّ تغطية سياسية إلى درجة أن حاكم مقاطعة برازيليا، إيبانيس روشا، وهو مقرّب من بولسونارو، تقدم بالاعتذار من الرئيس لولا دا سيلفا مُتعهّدًا باعتقال كل من ارتكبوا الإثم ومحاكمتهم.

تنتمي حركة بولسونارو إلى مدرسة إيديولوجية واحدة عمل ستيف بانون، مستشار ترامب السابق، على النفخ بها ورعايتها والتنظير لها وجعلها أُمَمِيّة عابرة للحدود. سهر بانون على نسج علاقات مع التيارات الشعبوية في أوروبا وانتقل فترةً للإقامة في القارة العجوز من أجل ذلك. وبدا لبانون أن تيار بولسونارو مقدمة لرواج التيار الشعبوي الترامبي داخل أميركا اللاتينية.

لسان حال الرئيس لولا دا سيلفا يدافع بدقة وعناية عن الديموقراطية في بلاده. يتحدّث الرجل من قلب الأزمة عن حاجة البرازيل إلى صون ديموقراطيتها كسبيلٍ وحيدٍ للتعايش. تشبه مقاربة الرجل إلى حدّ التطابق ما قامت عليه حملة الرئيس الأميركي جو بايدن والحزب الديموقراطي للانتخابات النصفية التي جرت في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) في الولايات المتحدة. وقد أجمعت الآراء على أن الخوف على الديموقراطية والرعب من النزوع اليميني الشعبوي المحافظ وما خرجت بها المحكمة العليا من فتاوى بشأن الإجهاض أنقذ الديموقراطيين من سقوط كان يتوقع أن يكون كاسحًا. وفق الحرص نفسه على الديموقراطية تقوم حوافز الرئيس البرازيلي الجديد لإنقاذ البرازيل.

نالَ بولسونارو حوال 58 مليون صوتًا في الانتخابات الرئاسية التي خسرها أمام خصمه الذي نال حوالي 60 مليونًا. لكن تلك الملايين لم تخرج لدعم “غزوة” برازيليا. بدا أن راديكاليي البولسونارية لا يتجاوز عددهم بضعة آلاف تُحرّكهم غوغائية سوقية ولا يحظون بحاضنة داخل المجتمع البرازيلي حتى من قبل ناخبي بولسونارو. كان واضحًا أن “هذا الشيوعي”، وفق التسمية التي أرادوها شتيمة للرئيس اليساري الفائز، يدرك أن لا أحد في البرازيل، بما في ذلك الجيش البرازيلي، يريد العودة بالبلاد إلى عصور الديكتاتورية العسكرية التي عرفتها البلاد في فترة 1964-1985. يعرف الرجل أيضًا أنه ليس وحيدًا في معركته وأن عواصم الدنيا سارعت إلى دعمه بما في ذلك دعم بايدن الذي دعاه لزيارة الولايات المتحدة. بدا أن للرئيسين الحكاية عينها في رفض سلفيهما حضور مراسم التسلم والتسليم في واشنطن وبرازيليا.

لن يكون يسيرًا على دا سيلفا لولا توحيد البرازيل المُنقَسِم بالشكل الحاد الذي أظهرته الانتخابات وعبّرت عنه بشكل دراماتيكي “غزوة” الأحد الأسود. لكن “هذا الشيوعي” لن يكون وحده في معركة بدا أنها لا تغيب عن مشهد أوسع يتناسل من حرب أوكرانيا، بحيث أن في موسكو من كان مُراقبًا بشغف لتحرّك يمين متطرّف متفهّم لموسكو في شوارع برازيليا البعيدة. لن تنسى موسكو رفض بولسونارو للعقوبات على روسيا وعتبه على الأوكرانيين الذين عهدوا لـ”الفكاهي” (زيلنسكي) تحديد مصير الأمة.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى