“إنتفاضة مَهسا” تُوقِظُ المُفاوضات في فيينا

محمد قوّاص*

رُغمَ حديث المبعوث الأميركي إلى إيران، روبرت مالي، عن “أولويّات أخرى” تدفع واشنطن إلى تقليل الاهتمام بمفاوضات فيينا، وحديث الرئيس الأميركي جو بايدن، الشهر الماضي، عن “موت الاتفاق”، فإن مؤشّراتٍ جديدة تدافعت تُوحي بإعادة إنعاش إمكانات التوصّل إلى اتفاقٍ نهائيٍّ بين إيران ومجموعة الـ 5+1. ولئن تجذب حرب أوكرانيا اهتمامات أوروبا والولايات المتحدة، خصوصًا بعد دخول المُسيّرات الإيرانية ساحة المعركة، إلّا أن هذا العامل بالذات، إضافةً إلى عوامل إيرانية داخلية، قد تُساهِمُ في إنضاج لحظةٍ لإبرام الصفقة حول البرنامج النووي الإيراني.

أعاد مُنَسِّقُ السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، فجأةً اكتشاف أن لا بديل من “خطة العمل المشتركة الشاملة” ( JCPOA)، وهو الاسم الرسمي للاتفاق الذي وُقِّعَ في فيينا مع إيران في العام 2015. لكن اللافت أن بوريل انتهز فرصة انعقاد مؤتمر بغداد-2، الثلثاء الفائت، في عمّان للقاء وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان. والواضح أن وجود منسّق الاتحاد الأوروبي لمحادثات فيينا، إنريكي مورا، وكبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري، في الاجتماع يكشف أن اللقاء كان مَتنًا وليس مصادفة على هامش المؤتمر المُنعقد في الأردن.

يُغرّدُ بوريل إثر الاجتماع بأن “الاتحاد الأوروبي وإيران مُتَّفقان على ضرورة إحياء الاتفاق النووي على أساس ما توصّلت إليه محادثات فيينا”. لكن اللافت أن الهمّة الأوروبية تنهل تفاؤلها مما صدر عن وزير الخارجية الإيراني بالذات من استعداد إيراني لإتمام الاتفاق وجاهزية طهران لإعادة إنعاشه بعدما غادرته الولايات المتحدة في العام 2018 بقرار من الرئيس السابق دونالد ترامب.

وإذا ما توقّفت المفاوضات بسبب مطالب إيرانية، منها ضمانات اقتصادية وأُخرى سياسية تتعلّق بعدم الانسحاب من الاتفاق في حال تغيّرت الهويّة السياسية للإدارة في واشنطن، لا تزال المعطيات المتوافرة علنًا لا تكشف عن الكيفية التي بنى عليها بوريل وعبد اللهيان تصريحاتهما الإيجابية.

والمُفارقة أن إيجابية أوروبا لا تتسق مع سياق انخراط إيران في حرب أوكرانيا إلى جانب روسيا. يعتبر الأوروبيون الحرب خطرًا حقيقيًا استراتيجيًّا على أمنهم ما يُبرّر انخراطهم داخلها بالدعم المالي واللوجيستي والعسكري لكييف. ويقوم ذلك التبرير من زاوية أنها حربٌ تُخاضُ “ضدنا في أوكرانيا”، وفق تعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وفيما تُشاركُ إيران في حربٍ تستهدف أوروبا يَلوحُ مَيلٌ أوروبي إلى عزل الملفات، ومُقاربة ملف البرنامج النووي الإيراني على نحوٍ مستقل عن موقف طهران من روسيا وحربها “ضد أوروبا”.

ولا شكّ في أن الحراك الشعبي في إيران بات ضاغطًا على صاحب القرار في طهران. ولئن لا ترى التقارير المخابراتية الغربية، حتى الآن، أن الحراك يُهدّدُ بقاء النظام، إلّا أنَّ توتّرَ السلطات الإيرانية وعجزها عن إيقاف حركة الشارع الذي انفجر منذ مقتل الشابة مهسا أميني في 16 أيلول (سبتمبر)، واستِعار الجدل الإيراني الداخلي العلني بشأن كيفية التعامل مع الحدث، بما في ذلك خطاب المرشد علي خامنئي المهدِّد المتوعِّد والمخوّن لهذا الحراك، تفرج عن حاجة طهران إلى مخارج قد تجدها في اتفاق يُبرَم في فيينا.

والحال، فإن حرب أوكرانيا لم تُسعِف الطرف الإيراني ولم تُقَوِّ موقعه على طاولة المفاوضات. على العكس من ذلك قادت هذه الحرب إلى تشكّل وحدة أوروبية أطلسية متناغمة مع سياسات الإدارة الأميركية لم تكن متوافرة بهذا المستوى قبل ذلك. كما أنَّ ظروفَ تلك الحرب بما في ذلك تورّط طهران في تقديم الدعم التسليحي لموسكو بالمُسيّرات والصواريخ الباليستية، جعلت الموقف الغربي أكثر تشدّدًا مع إيران من ضمن تشدّده مع موسكو، وجعل من منع إيران من حيازة سلاح نووي هدفًا يندرج داخل سياق إعادة قراءة الاستراتيجيات في التعامل مع حلف روسي – صيني يرجح أن تكون إيران جُزءًا منه.

وإذا ما كان خطاب إيران الرسمي وبلسان المرشد بالذات يتّهم الحراك الشعبي بأنه ليس إلّا صنيعة الخارج ويحظى بغطاءٍ غربي، فإن في ذلك تكرارًا مُملًّا اعتاده النظام منذ عهد روح الله الخميني ليُقدّم نفسه ضحيّة لقوى “الاستكبار” والمكافح لها. لكن ما تلاحظه طهران أن التعامل الغربي مع الحراك الراهن يختلف على نحوٍ مُقلق مع النهج الذي اعتمدته العواصم الغربية في مقاربتها لانتفاضات شعبية سابقة.

والواقع أن مثال “الانتفاضة الخضراء” لا يزال مَرجَعًا ومقياسًا للكيفية التي تعامل بها الخارج مع الحدث الذي انفجر في العام 2009 احتجاجًا على نتائج الانتخابات التي أعادت محمود أحمدي نجاد رئيسًا لولاية جديدة. تجنّبت الولايات المتحدة آنذاك إعطاء مواقف نوعيّة تُوحي بأيِّ دعمٍ للمُنتفضين، ولم تصدر أية إدانة للعملية الانتخابية التي شابتها عيوبٌ فاضحة، ولم تتبنَّ موقفًا جدّيًا حيال عمليات قمع شاملة ودموية وقادت أيضًا إلى اعتقالات طاولت قيادات من التيار الاصلاحي لا يزال بعضها يخضع للإقامة الجبرية حتى الآن.

وإذا ما كان الموقف الأميركي الغربي الباهت حينها من لزوم الحاجة إلى عدم إقلاق نظام يتمّ تدبير اتفاق معه قادَ العام 2015 إلى إبرامه في فيينا، فإن احتضان الرئيس الأسبق باراك أوباما للحالة الإيرانية وفق ما عبّر عنه في ما عُرف بـ”عقيدة أوباما” في آذار (مارس) 2016، كشف عن قرارٍ استراتيجي أميركي بتسهيل انخراط النظام الإيراني داخل المنظومة الدولية وفرضه على حلفاء الولايات المتحدة العرب، لا سيما الخليجيين، بالدعوة إلى “تشارك النفوذ مع إيران”. غير أن موقف واشنطن والعواصم الغربية المُدافع عن الحراك الإيراني الجديد، يفرج عن تراجع الحرص الغربي على سلامة النظام وتطور الموقف المُتشدّد ضد طهران.

يُسهّلُ موقف إيران المُعرقِل لإبرام اتفاقٍ جديد في فيينا السعي الإسرائيلي، وخصوصًا بعد تكليف بنيامين نتنياهو تشكيل الحكومة الإسرائيلية، الى إقناع إدارة بايدن بالتشدّد في منع إيران من حيازة سلاحٍ نووي بما في ذلك بالوسائل العسكرية. كما أن تصلّبَ إيران في ملفاتٍ عديدة قاد إلى تعليق الحوار الذي كان جاريًا مع السعودية برعايةٍ عراقية، فيما أن فشل الاتفاق النووي سيُفاقم هذه القطيعة و”يُدخِلُ المنطقة في مرحلةٍ خطيرة جدًا”، وفق تعبير وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان.

والأرجح أن خريطة طريق غامضة قادت وفد الوكالة الدولية للطاقة الذرية لزيارة إيران. والواضح أن انفتاحَ عبد اللهيان وتفاؤل بوريل وعودة المُحقّقين الدوليين للعمل في إيران واجهات لورشة تُدَبَّر قد تُنعِشُ في فيينا ما يمكنه التغطية على حراك “انتفاضة مهسا” في شوارع إيران.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى