“عَرينُ الأسود” ليس ظاهرةً عابرة: عن ثورةٍ مُسَلَّحةٍ تَلوحُ في الأفُقِ في فلسطين

بسبب خيبة الأمل من النموذجِ السياسي الفاشل للسلطة الفلسطينية، والتأثر المتزايد بالمقاومة المسلحة في غزة  فإن التمرّدَ المُسَلَّح في الضفة الغربية هو ببساطة مسألة وقت.

الرئيس محمود عبّاس: فقد مع سلطته ثقة أكثرية الفلسطينيين

الدكتور رمزي بارود*

فقط عندما بدأت إسرائيل، وحتى بعض الفلسطينيين، الحديث عن ظاهرة “عرين الأسود” كتنظيمٍ صغير لا قيمة له، قام عددُ كبير من المُقاتلين المُنتمين إلى هذه المجموعة الفلسطينية المُشَكَّلة حديثًا في مدينة نابلس بمسيرة.

على عكس الظهور الأول للمجموعة في 2 أيلول (سبتمبر)، كان عدد المقاتلين الذين شاركوا في المسيرة في مدينة نابلس القديمة في 9 كانون الأول (ديسمبر) أكبر بكثير وأفضل تجهيزًا، مع زيٍّ عسكري مُوَحَّد واحتياطاتٍ أمنية أكبر.

“العرين هو تنظيمٌ مُلكٌ لفلسطين كلها ويؤمن بوحدة الدم والكفاح والبنادق”، في إشارة إلى نوع المقاومة الجماعية التي تتجاوز المصالح الفئوية.

وغنيٌّ عن القول أن الحدث كان مهمًا. قبل شهرين فقط، خفّضَ وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس مكانة المجموعة من حيث العدد والنفوذ، مُقدِّرًا عدد أعضائها بـ “حوالي 30 عضوًا”، مُتَعهّدًا “بإلقاء القبض عليهم […] والقضاء عليهم”.

كما شاركت السلطة الفلسطينية بنشاط في قمع المجموعة، على الرغم من استخدام نهجٍ مختلف. وقد تحدثت وسائل إعلام فلسطينية وعربية عن عروضٍ مالية ووظيفية سخيّة قدّمتها السلطة الفلسطينية لمقاتلي “عرين الأسود”، في حال وافقوا على إلقاء أسلحتهم.

أخطأت كلٌّ من القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية في قراءة الوضع إلى حدٍّ كبير. لقد افترضتا خطأً أن الحركة المولودة في نابلس هي ظاهرة محلية ومؤقتة، مثل الآخرين في الماضي، يمكن بسهولة سحقها أو شراؤها.

ومع ذلك، يبدو أن “عرين الأسود” قد زاد من حيث العدد، وقد تفرّع وتمدّد بالفعل إلى جنين والخليل وبلاطة وأماكن أخرى.

بالنسبة إلى إسرائيل، وكذلك بالنسبة إلى بعض الفلسطينيين، يُعتَبَر تنظيم “عرين الأسود” مشكلة غير مسبوقة، وتهدد عواقبها بتغيير الديناميكيات السياسية في الضفة الغربية المحتلة بالكامل.

مع ظهور شارات ورموز “عرين الأسود” الآن في كل حيٍّ فلسطيني في جميع أنحاء الأراضي المحتلة، نجحت المجموعة في الخروج من حي معين في نابلس –القصبة– لتصبح تجربة فلسطينية جماعية.

وقد أظهر استطلاعٌ حديث أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمَسحية الادّعاء أعلاه بطريقة لا لبس فيها.

أظهر الاستطلاع العام الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أن 72٪ من الفلسطينيين يؤيدون إنشاء المزيد من هذه الجماعات المسلحة في الضفة الغربية. ما يقرب من 60 في المئة يخشون أن يؤدي التمرّد المسلح إلى مواجهة مباشرة مع السلطة الفلسطينية. وقد رفض 79 في المئة و87 في المئة على التوالي تسليم المقاتلين لقوات السلطة الفلسطينية، ورفضوا فكرة أن للسلطة الفلسطينية الحق حتى في تنفيذ مثل هذه الاعتقالات.

تَشهَدُ هذه الأرقام على واقع الشارع، ما يُشيرُ إلى انعدام الثقة شبه الكامل بالسلطة الفلسطينية والاعتقاد بأن المقاومة المسلحة فقط، على غرار المقاومة في غزة، هي القادرة على تحدّي ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

هذه المفاهيم مدفوعة بأدلّة تجريبية: من بينها فشل السلطة الفلسطينية الفاسدة ماليًا وسياسيًا في تعزيز التطلعات الفلسطينية بأي شكل من الأشكال؛ عدم اهتمام إسرائيل الكامل بأيِّ شكل من أشكال مفاوضات السلام؛ الاتجاه الفاشي اليميني المتطرف المتنامي في المجتمع الإسرائيلي، والذي يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالعنف اليومي ضد الفلسطينيين في القدس الشرقية والضفة الغربية المُحتَلّتَين.

أفاد مبعوث الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط “تور وينيسلاند” أخيرًا أن العام 2022 “في طريقه ليكون العام الأكثر دموية للفلسطينيين في الضفة الغربية منذ […] 2005”. وقد ذكرت وزارة الصحة الفلسطينية أن 167 فلسطينيًا قتلوا في الضفة الغربية هذا العام وحده.

ومن المرجح أن تزداد هذه الأرقام خلال الولاية الجديدة لرئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني الجديد بنيامين نتنياهو. لا يمكن للحكومة الجديدة أن تبقى في السلطة إلّا بدعم بتسلئيل سموتريتش من حزب الصهيونية الدينية وإيتامار بن غفير من حزب “عوتسما يهوديت” (قوة يهودية). من المفارقات أن بن غفير، وهو سياسي متطرف سيئ السمعة، من المقرر أن يصبح وزيرًا جديدًا لأمن إسرائيل.

لكن هناك ما هو أبعد من التمرّد المسلح الذي يختمر في الضفة الغربية أكثر من العنف الإسرائيلي وحده.

بعد ما يقرب من ثلاثة عقود على توقيع اتفاقات أوسلو، لم يحصل الفلسطينيون على أيٍّ من حقوقهم السياسية أو القانونية الأساسية. على العكس من ذلك، يتحدث السياسيون اليمينيون بجرأة في إسرائيل الآن عن “ضمٍّ ناعم” أحادي الجانب لأجزاء واسعة من الضفة الغربية. لم تعد أيٌّ من القضايا التي تم اعتبارها مهمة في العام 1993 –وضع القدس المحتلة واللاجئين والحدود والمياه وما إلى ذلك– على جدول الأعمال اليوم.

منذ ذلك الحين، إستثمرت إسرائيل أكثر في القوانين العنصرية وسياسات الفصل العنصري، ما جعلها نظامَ فصلٍ عنصري بامتياز. وقد أكدت مجموعات حقوقية دولية كبرى الهوية الجديدة والعنصرية الكاملة لإسرائيل وقدمت تقارير عنها.

مع الدعم الأميركي الكامل وعدم وجود ضغط دولي على إسرائيل يستحق الذكر، يحشد المجتمع الفلسطيني ويتحرّك خارج القنوات التقليدية للعقود الثلاثة الماضية. على الرغم من العمل المثير للإعجاب لبعض المنظمات غير الحكومية الفلسطينية، فإن “تشكيل المنظمات غير الحكومية” للمجتمع الفلسطيني، التي تعمل بأموال تم الحصول عليها إلى حدٍّ كبير من داعمي إسرائيل الغربيين، زاد من حدة الانقسام الطبقي بين الفلسطينيين. مع رام الله وعدد قليل من المراكز الحضرية الأخرى التي تعمل كمقر للسلطة الفلسطينية وقائمة ضخمة من المنظمات غير الحكومية، عاشت جنين ونابلس ومخيمات اللاجئين المجاورة في التهميش الاقتصادي والعنف الإسرائيلي والإهمال السياسي.

بسبب خيبة الأمل من النموذج السياسي الفاشل للسلطة الفلسطينية، والتأثر المتزايد بالمقاومة المسلحة في غزة  فإن التمرد المسلح في الضفة الغربية هو ببساطة مسألة وقت.

ما يميز العلامات المبكرة لانتفاضة مسلحة جماعية في الضفة الغربية عن “انتفاضة القدس”، التي أُطلِقَ عليها أيضًا “انتفاضة السكاكين” في العام 2015، هو أن الأخيرة كانت سلسلة من الأعمال الفردية غير المُنَظَّمة التي قام بها شباب الضفة الغربية المضطهَدون، في حين أن الأولى هي ظاهرة شعبية منظمة تنظيمًا جيدًا مع خطاب سياسي فريد يروق لغالبية المجتمع الفلسطيني.

وعلى عكس الانتفاضة الفلسطينية الثانية المسلحة (2000-2005)، فإن التمرّد المُسَلَّح الذي أعقب ذلك مُتجذِّرٌ في قاعدةٍ شعبية، وليس في قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية.

أقرب إشارة تاريخية إلى هذه الظاهرة هي الثورة الفلسطينية في 1936-1939، التي قادها آلاف الفلاحين الفلسطينيين في الريف الفلسطيني. شهد العام الأخير من هذا التمرد انقسامًا كبيرًا بين قيادة الفلاحين والأحزاب السياسية في المدن.

التاريخ يُعيدُ نفسه. ومثل ثورة 1936، فإن مستقبل فلسطين والمقاومة الفلسطينية –في الواقع، النسيج الاجتماعي للمجتمع الفلسطيني– على المحك.

  • الدكتور رمزي بارود هو صحافي أميركي-فلسطيني ورئيس تحرير “فلسطين كرونيكل”. ألّفَ ستة كتب. كتابه الأخير بالإنكليزية، الذي شارك في تحريره إيلان بابيه، هو “رؤيتنا للتحرير: قادة ومثقفون فلسطينيون منخرطون يتحدثون بصراحة”. وهو أيضًا باحث أول غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية (CIGA). يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: ramzybaroud.net

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى