إنقلابُ ألمانيا: حَنِينُ أوروبا إلى الإمبراطوريات

محمّد قوّاص*

كان خبرًا غرائبيًا قيامُ القوات الخاصة الألمانية في 7 كانون الأول/ديسمبر باعتقال 25 شخصًا في جميع أنحاء البلاد بتهمة التخطيط لما وصفته السلطات بانقلاب ضد الدولة الألمانية. ففي خضم الحرب الأوكرانية الدائرة في قلب أوروبا والتي يُرَوِّجُ التهديدُ بنوويتها وعالميتها، تُحبِطُ برلين “مؤامرة” للانقلاب على نظام الحكم في ألمانيا.

ووفق ما كُشف فإن المجموعة كانت تُخطِّطُ لوضع الأمير هاينريش الثالث عشر (71 عامًا) من رويس على رأس البلاد. والرجل سليل إحدى العائلات الملكية للإمبراطورية الألمانية السابقة. كان من بين المُعتقَلين أيضًا عضوٌ في حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف، ما أثار أسئلة بشأن علاقة النوستالجيين إلى عهودٍ ألمانية من الماضي بمشاريع اليمين المتطرف الذي يدعو إلى ألمانيا أخرى في الزمن الحاضر.

وفق رواية المُدّعي العام الاتحادي الألماني، فإن المشاركين في عملية التخطيط للانقلاب هم من أتباع الأفكار الإيديولوجية لمجموعة “كيو أنون” ( QAnon)الأميركية التي تؤمن بنظرية المؤامرة، وهم من المُنتَمين إلى تيار مواطني الرايخ أو “الرايخسبورغ” (Reichsbürger).

لا يؤمن أصحاب الانقلاب بدولة ألمانيا الحالية، أي جمهورية ألمانيا الاتحادية، التي تأسست في الغرب في العام 1949 ثم امتدّت إلى أقصى الشرق مع انهيار الشيوعية في العامين 1989 و1990، ويعتبرونها غير شرعية.

يعتقد البعض منهم أن الرايخ الذي أقامه أوتو فون بسمارك في العام 1871، لا يزال الدولة الوحيدة الشرعية قانونًا التي تنتمي إلى ألمانيا بالكامل، ويعتبرون أنه تمت الإطاحة بها بشكل غير قانوني في ثورة في نهاية الحرب العالمية الأولى. بعضهم يقبل بجمهورية فايمار التي نشأت خلال الثورة في العام 1918 ودمّرتها النازية. وهم يريدون استعادة ألمانيا كما كانت قبل أدولف هتلر في العام 1933، ومعظمهم قبل العام 1918.

لا تُدافِعُ هذه الجماعة، التي يصل تعداد أفرادها إلى 20 ألفًا، عن هتلر والحقبة النازية ولا يعتبرونهما امتدادًا للرايخ الأصيل الذي يؤمنون به. حتى أنهم يعتبرون أن ألمانيا، سمعةً ومناعةً وقوةً وحضارة، قد تضرّرت بسبب تلك الحقبة وما زالت تدفع أثمانًا غالية تكفيرًا عن ذنوبٍ باتت جُزءًا من التكوين الهوياتي لألمانيا الحاضر.

وعلى الرغم من ضبابية في علاقة “الرابخسبورغ” مع اليمين الشعبوي المُتَطرّف، إلّا أنَّ الحدثَ يُعيدُ تسليطَ الضوءِ على إشكاليةِ رواج أحزاب اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية في أوروبا والتي لا يخفي بعضها حنينًا إلى نازيةٍ ألمانية أو فاشيَّةٍ إيطالية وتمدّدهما نحو فرانكووية إسبانية. والإشكالية تدور حول ازدهار ذلك الحنين في بلدان يُفترَض أنها عرفت ثراءً واستقرارًا مُقارنةً ببلدانٍ أخرى منذ الحرب العالمية الثانية، وخبرت تجارب ديموقراطية عريقة وناجحة لم تعرفها أممٌ أخرى.

وإذا ما قارَنّا خطابَ اليمين المُتَطَرِّف في إيطاليا أو فرنسا أو النمسا أو ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية، فإنها جميعها، في الحُكمِ أو المعارضة، مُعادية لليبرالية الديموقراطية التي سبق للأميركي فرنسيس فوكوياما أن اعتبرها قمة الحضارة والتقدّم وأنهى بها التاريخ، ومُتَفَهِّمة لنماذج أقل ليبرالية وأقل ديموقراطية بالمعايير الغربية، سواء تلك التي كان معمولًا بها في زمنٍ سابق قد يعود إلى عقود أو حتى إلى قرون، أو تلك التي تُمثّل في الحاضر نقيضًا صارخًا ومُعاديًا لها مثل روسيا والصين.

ولئن يحكم اليمين الشعبوي في بولندا وإيطاليا وهنغاريا ويتقدّم في السويد وكاد يحكم في فرنسا، فإن نموذج “الرايخسبورغ” المُثير للجدل أخيرًا في ألمانيا يُبشّر بالعودة إلى ماضٍ كانت فيه ألمانيا الإمبراطورية التي أقامها بسمارك إثر حروبٍ توحيدية، وامتدّت حدودها ما بين العامين 1871 و1918 لتضمّ جُزءًا كبيرًا من شمال بولندا على طول ساحل البلطيق.

بمعنى آخر فإن الماضوية الألمانية التي قد تُعتَبَرُ ضربًا من ضروب العته والجنون قد تجد لها بيئة حاضنة ترى في الأشكال الملكية والامبراطورية العتيقة بديلًا من حداثة تُظهِرُ عجزًا عن مواجهة العوز والأمن والمرض، وتُقدّمُ ترياقًا لمواجهة تعدّدية ثقافية تقود إلى تحقق نبوءة صاموئيل هنتغنتون بـ “صدام الحضارات”.

وعلى الرُغمِ من الحقد الذي يكنّه “مواطنو الرايخ” للاتحاد السوفياتي، فإنهم قد يجدون في السوفياتية أو القيصرية أو الأورواسية التي كان يدعو إليها إيفان إيلين، مُنظّر الفاشية الروسية قبل 60 عامًا، والتي ما زال يبشّر بها ألكسندر دوغين في روسيا الحديثة، مناسبة لإعادة إحياء كل الأمبراطوريات القديمة وإخراجها من كتب التاريخ وفرضها من جديد بقيَمها الغابرة وبأبعادها الجيوستراتيجية النافرة.

واللافت أنهم، كما كافة تيارات اليمين الشعبوي في العالم، يجدون في الترامبية الأميركية امتدادًا لأفكارهم. والمفارقة أن أنصار الرئيس الأميركي السابق قد قاموا باقتحام مبنى الكابيتول، مقر الكونغرس، في 6 كانون الثاني/يناير 2021، بعد أشهر على قيام  مجموعة من”مواطني الرايخ” بمحاولة في آب/أغسطس 2020 لاقتحام البوندستاغ، مقر البرلمان الألماني.

الحدث الألماني، فكرًا وميدانًا وطموحًا، ليس بعيدًا من بيئةٍ فكرية تجد في الفاشيات الجديدة حاضناتٍ انتعشت في حرب أوكرانيا، وتروق للدعوات الآتية من موسكو بالانقلاب على الأمر الواقع الدولي، وإعادة تغيير خرائط الحدود، والقفز عن واقع دول تمّ إنشاؤها، وإعادة إحياء امبراطوريات خُيّلَ أنها انقرضت إلى غير رجعة.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى