مَذاقُ “الشُوكُولاتَة” بريشَاتهم

سلفادور دالي: “كازانوفا وفنجان الشوكولاتة” (1967)

هنري زغيب*

إِنه زمن الأَعياد… وفي الأَعياد هدايا… وبين أَعذب الهدايا تَــلَـــمُّـــظُ حبَّات الشوكولاتة التي تذوب في الفم كما قبلة بين شَفَتَين.

ولأَن الشوكولاتة متوفِّرة في المحالِّ التجارية، سأَنتقل بقراء “أَسواق العرب” إِلى أَمكنة لن يرَوا فيها الشوكولاتة، لكنها أَجمل مما في المحالّ: إِنها في لوحات الفنانين الذين أَحبُّوا الشوكُلاتة جامدة وسائلة فخلَّدوها في لوحاتهم.

جيوزيبي بونيتو: “ماريَّا جوزيفا وفنجان الشوكولاتة” (1579)

عمرها 4000 سنة

في صفحات التاريخ أَن قصة الشوكولاتة وُلِدت قبل نحو 4000 سنة في مناطق بدائية من التي تشكِّل اليوم بلدان أَميركا الوُسطى الرابطةِ حاليًّا أَميركا الشمالية بأَميركا الجنوبية. ذلك أَن سكَّان تلك المناطق الأُوَلَ نجحوا في تحويل حبوب الكاكاو إِلى شرابٍ كانوا يستعملونه في تقاليدَ شعبيةٍ وفي علاجات طبية.

وفي تاريخ شعوب الــ”مايا” (حضارة الـ”مايا” كانت منتشرةً حيثُما اليوم جنوبيُّ شرقيُّ المكسيك، وكامل غواتيمالا وبيليز وغربي هندوراس والسلفادور)، أَنَّ كلمة “شوكولاتة” كانت تعني “غذاء الآلهة”. ومع أَنه كان حضارَتَــئِــذٍ مُتاحًا أَمام الطبقات الاجتماعية كي تشربه، كان أَساسًا شرابَ الكهنة ونخبةِ المجتمع “الماياوي”.

جان إتيان لِيُوتار: “فنجان الشوكولاتة مع وجبة الفُطور” (1754)

غرباء أَمام كريستوف كولومبس

سنة 1502 وصلَ كريستوف كولومبُس في رحلته البحرية الرابعة إِلى جزيرة غْوَانَايَا (إِحدى جزر هندوراس في البحر الكاريبي) فقَدَّم له أَهلُها حَبَّات الكاكاو دون أَن يعرفوا مفعولها في كيان كولومبوس هديةً من أَيدي أُولئك الغُرَباء.

بعدذاك، في سائر القرن السادس عشر، استعمر الإِسبان مناطقَ من أَميركا الوُسطى، وبينها أَراضي شعوب الـ”مايا”، فهدَّموا جميع معالمهم ودمَّروا إِرثهم الثقافي، ومنه وثائقُ مدوَّنَةٌ عن تاريخ حضارتهم ومعارفها. وظلَّ رفاق كولومبُس ومعاصروه فترةً حذِرين قلقًا من المذاق الـمُر في حبَّات الكاكاو. لكن وجودها معهم جعل أَن تنتشر ثمرة الكاكاو مع انتشار استعمار الإِسبان والبرتغاليين – والهولنديين لاحقًا – معظمَ القارة الأُوروبية.

وأَول ما راحت تُقَدَّم في بلاط ملوك الإِسبان، كانت ممزوجةً بالسُكَّر والعسَل والفانيليا، وجُعِلَت شراب عائلات الطبقة الإِسبانية الأَرستقراطية التي، لفترةٍ أُولى، كبَحَت انتشارها في سائر أُوروبا.

الشوكولاتة إِعلانٌ تجاريّ

الشوكولاتة في الرسم

ولأَن ما يغدو شعبيًّا لا يمكن كبح انتشاره، ظهر شُرب الشوكولاتة الساخنة السائلة للمرة الأُولى في لوحةٍ من القرن الثامن عشر للرسام الإِيطالي جيوزيبي بُونيتُّو (1707-1789) تَظهر فيها الصبية ماريَّا جوزيفا (ابنة الملك الإِسباني شارل الثالث)، إلى جانبها كلبُها الصغير وهي تمدُّ يدَها إِلى طاولتها لتناوُل فنجان الشوكولاتة السائلة.

ولأَن هذه الشوكولاتة شرابٌ دسمٌ منبهٌ مفاصلَ الجهاز العصبي وتاليًا يطلق الحيوية، سرعان ما أَمسى رفيقَ الفطور الصباحي المأْلوف لدى الطبقة الأَرستقراطية، مصحوبًا بكوبٍ من الماء وقطعةٍ من الحلوى، ما يترك في الشرايين نشاطًا يدوم نابضًا طوالَ نهار عملٍ طويل قد يكون ذا إِرهاق اجتماعيّ ومهنيّ.

ولأَن فنجان الشوكولاتة الساخنة عادةً ما يبدأُ صباحًا في السرير، ظهر هكذا في لوحة الإِيطالي بياترو لونغي (1701-1785) عن أَرستقراطـيِّــي مدينته البندقية. وغالى بعض الرسامين فجعل فنجان الشوكولاتة الساخنة ممكنًا تناوُله الهادئُ في أَيِّ مكان أَو ظرفٍ آخر حتى في حوض الاستحمام.

من لوحة الرسم إِلى لوحة الإِعلان

تنامى ظهورُ فنجان الشوكولاتة الساخنة في الأَعمال الفنية، حتى بلغ بالرسام السويسري جان إِتيان لِــيُــوتار (1702-1789) أَن وضع سلسلة لوحات لسيِّدات يحتسِين الشوكولاتة الساخنة أَو يقدمنَ فنجانها لزوارهِنّ. وفي إِحدى لوحاته (اعتبرها النقَّاد رائعة أَعماله) رسم خادمة تقدِّمه مع كوب ماء. وأَلهمت تلك اللوحة معاصري لِــيُــوتار أَن يرسموا من مناخها، أَو حتى أَن يستَنْسخوها كما هي.

وأَكثر عن تلك الظاهرة: حين انتشر شعبيًا تناوُلُ الشوكولاتة الساخنة السائلة، تناوَلَها مصمِّمو الإِعلانات التجارية في الترويج لشركات تَصنيعها، كما صورةُ فنجانها على عُلَب شركاتٍ مصنِّعةٍ مادةَ الشوكولاتة، منها الشركةُ الهولندية الشهيرة “درُوسْتي” (تأَسست في مدينة هارلـِم سنة 1863).

فُطُور الجنود في الحرب

أَكثر بعد: مع انتشارٍ متزايدٍ تناوُلَ الشوكولاتة الساخنة، تزايدَ تصنيع الشوكولاتة في سائر أُوروبا فباتت شرابَ الطبقة العادية ولم تَعُد قصْرًا على الطبقات المترَفَة.

وتنامت صناعة الشوكولاتة تجاريًّا فتظهَّرت واسعةً مع الثورة الصناعية، وبين مظاهرها أَنْ كانت أَلواحُها اللذيذةُ جُزءًا من الوجبة الصباحية لفُطُور الجنود في الحرب العالمية الأُولى.

في هذه الفترة من السنة، ونحن في زمن الأَعياد، وللأَعياد هداياها، قد يكون أَعذبَ الهدايا تَــلَـــمُّـــظُ حبَّات شوكولاتة تذوب في الفم فتحلو مَذاقًا كما قبلةٌ حبيبةٌ بين شَفَتَين.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى