‏شارل مالك: الفكر والحضور في العالم*

الدكتور فيليب سالم*

ليس سهلًا عليَّ كلامي عن شارل مالك، فهو يحتلُّ مكانةً كبيرة في قلبي ومكانةً أكبر في عقلي. كلانا وُلِدَ وعاشَ في قريةٍ صغيرة اسمها بطرّام. نحنُ نسيبان من جهة والدتي التي رافقته صغيرًا وشاركته الحياة الأكاديمية في الجامعة الأميركية (بيروت)  كما شاركته طيلة حياتنا الحب الكبير للبنان.

لكنني سأحاول تحديد مكانته بين الفكر والتاريخ في خمس نقاط.

  1. إعلان الأمم المتحدة شرعة حقوق الإنسان. وكان هذا إنجازه الرئيس. يعرف عنه العالم أنه مُقرّر ( rapporteur) لجنةٍ عُهِدتْ إِليها صياغة الإعلان. لكن العالم لم يعرف أن شارل مالك كان أكثر من مجرّد “مُقرّر”، بل هو القائد الفعلي لتلك اللجنة التي كانت تضم خمسة أعضاء. فلولا إِصرارُه ومُثابرتُه ونَفَسُه الطويل وقوة إقناع كانت له، لَما رأت الوثيقة النور. لم يكن “واحدًا ممن صاغوا الإعلان” بل كان أباه.  صحيح أن هذا الإعلان العالمي كان ‏أحد الإنجازات الرئيسة للأمم المتحدة، إنما يؤسفني أن منظمة الأمم المتحدة ذاتها لم تحترمه. فالوثيقة، منذ صدورها في 10 كانزن الأول (ديسمبر) 1948، لم تخضع للمراجعة والتدقيق والتحديث. ويعلّمنا العلْم أن كلَّ ما لا يخضع للمراجعة والتحديث يخسر القدرة على الحياة ويتجمَّد في التاريخ. والأمم المتحدة لم تعمل بجدٍّ وصرامة ومسؤولية على تطبيق شرعة حقوق الإنسان، بدليل أن معظم دول العالم يتجاهل الشرعة اليوم ولا يحترمها. والمفارقة المحزنة أن أكثر دولة تتجاهل هذه الحقوق وتدوسها هي دولة لبنان، وطن شارل مالك.
  2. تركيزُه على حرية الإنسان الفرد. إذا على البشرية أن تُمجّدَ الله، عليها كذلك أن تُمَجِّدَ الإنسان الفرد وتدعم كرامته. ألم يخلق الله الإنسان على صورته ومثاله؟ الدولة أداة لخدمة الفرد وليس العكس، والحرية هي البوابة إلى الحضارة، والإنسان الفرد هو مَن يصنع الحضارة. هي هذه الرؤية الفلسفية التي شكلت مَعلَمًا من معالم الفكر السياسي بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت نقيض فلسفة الأنظمة الشيوعية والشمولية التي تسحق الفرد لإعلاء شأن النظام السياسي.
  3. التزامُه العميق بدور الأخلاق والقيم الإنسانية في صنع السياسات. كثيرًا ما تُبنى السياسات على اعتباراتٍ أمنية واقتصادية فقط. لكن شارل مالك رأى أن صنع السياسة يعتمد إيديولوجيا تلتزم الحق والأخلاق والعدالة. القوة العسكرية وحدها لا تكفي للدفاع عن الحرية بل تحتاج إلى قوّة العدالة.
  4. إيمانُه بالله: ميَّز شارل مالك عن الكثيرين من المفكرّين والسياسيين إيمانُه الراسخ بالله، فشكَّل إيمانه المسيحي العمود الفقري لفلسفته. أحبَّ المسيح فكان يسوع محور حياته. ويبقى كتابه “يسوع المسيح والأزمة” كنزًا نادرًا في الفكر المسيحي. وهو ولد وعاش في بيتٍ بُنِيَ على الرسالة المسيحية، وكان اثنان من أشقائه: الأب جبرائيل والأب رمزي من كبار علماء اللاهوت. من هنا أن المعرفة والفلسفة والسياسة لم تهزّ إيمانه بل رسّخته عميقًا.
  5. إيمانُه بلبنان: آمن شارل مالك بلبنان كما آمن بالله، ونحن اللبنانيين نحبه على حبه اللامحدود للبنان. وإنني لا أعرف أحدًا دافع عن القضية اللبنانية بضراوة أكثر منه، ولا أعرف أحدًا غيره كانت هويته السياسية ثالوث حرية وسيادة واستقلال لبنان. سوى أن لبنانه يواجه اليوم تهديدًا وجوديًا لا يطال هويته السياسية فقط بل ما هو أهم: هويته الحضارية. لبنان صنو الحرية، فإن زال أُسدِلَت الستارة على الحرية في الشرق كله.

ليكن التاريخ شاهدًا علينا: لن نسمح لأحد بدفنه، وسوف نقيمه من مماته.

  • الدكتور فيليب سالم، طبيب وباحث وأستاذ ورجل دولة عالمي في طب السرطان، يعمل كمدير فخري لأبحاث السرطان في مستشفى سان لوك الأسقفية في هيوستن، وهو رئيس “مركز سالم للأورام السرطانية”.
  • ألقاها بالإنكليزية في ندوة عن شارل مالك عقدَتْها جامعة سيدني (أُوستراليا) يوم الاثنين في 12 كانون الأول (ديسمبر) لمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى