… لأَنها بيروتُنا الأُعجوبية

هنري زغيب*

كثيرين رأَيتُهم بين أَجنحة الكُتُب، وأَنا داخلٌ إِلى “معرض بيروت العربي الدُوَلي للكتاب”، في طريقي إِلى قاعة محاضرات “النادي الثقافي العربي” استعدادًا للندوة الثلاثية التي تجمعني دوريًّا إِلى البروفسور أَنطوان مسرَّة (رئيس كرسي الأُونسكو في جامعة القديس يوسف)، والأُستاذ سهيل منيمنة (مؤَسس/رئيس جمعية “تراثنا بيروت”) حول موضوع “دور التراث اللبناني في تعزيز المناعة الوطنية”، والتراثُ ذاكرتُنا التي بدُونها نَعرى من تاريخنا فلا نستحقُّ الوطن.

كثيرين رأَيتُهم بين أَجنحة دُور النشر، يقلِّبون الكُتُب أَو يشترونها بما تُتيحه لهم قدرتُهم الشرائية، وعلى وجوههم رضى الكتاب وهناءَة الثقافة، كما تحدِّيًا صلافةَ هولاكو العصر الذي خال واهمًا أَنه دمَّر بيروت.

مرفأُها انفجر؟ لا نَـبكِــيَــنَّــها متفجِّعين كعويل أَنبياء التوراة. معتادةٌ بيروت على الأَقدار تضربها برًّا وبحرًا، ومعتادةٌ على الفواجع تدمِّرها، وانفجار 4 آب أَفجعُها دمارًا، لكنها دومًا تنفض عنها الدمار والرماد، وتُشرق حوريةَ البحر التي ولا أَجمل، فإِذا هي بين الشوارع المحروقة والأَرصفة المدمَّرة لم يحترقْ منها سوى فستان العرس إِنما لم يحترقْ نبضُ العروس. ذلك أَنَّ بيروت عصيَّةٌ على السقوط، اعتادت منذ القدَم عواصفَ وأَنواءَ وزلازلَ ومرثيَّاتٍ ودمارًا، تنهزم على شطِّها الأَنواء والزلازل وتبقى بهيةً تُشرق مع الشمس على تلال لبنان.

قلَّما اختصرَت مدينة وطنها كما بيروت تختصر لبنان. لذا أَحببْتُ عبارة الرئيس فؤَاد السنيورة في ندوتنا أَنَّ “بيروت هي الخَلاص والخُلاصة”. وإِنها فعلًا هكذا: هي الدَور والرسالة، وهي عنوانُنا الحضاري في العالم. أَقول “الحضاري” لأُلغي باشمئزازٍ كلَّ ما في لَغْو السياسيين من وُحُول وقذارة، بسببهم تتكسَّر الأَوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية والشعبية، لكنما تتواصل الحالة الثقافية إِنتاجًا موسيقيًا ومسرحيًّا ورسمًا ونحتًا وأُمسياتٍ أَدبيةً وشعريةً ومعارضَ وندواتٍ وإِصدارات، ما يجعل مسارَ لبنان الثقافي لا “متوازيًا مع” بل “متعاليًا على” لبنان السياسي.

بادرةُ “النادي الثقافي العربي”، في الإِصرار على إِقامة المعرض، دعوة عنيدة لتثبيت بيروت الدَور والرسالة. وهو ما أَشارت إِليه واثقةً رئيسةُ النادي السيدة سلوى السنيورة بعاصيري بأَن المعرض هو “الحدَث الثقافي الذي تنتظره بیروت الصابرة لتؤَكِّد صُمودَها وصمودَ صنَّاع

الكلمة ومحبِّي المعرفة إِزاء التحدیات المتناسلة، بإِصرارها على صون مكانةٍ أَحرزَتْها بجدارةٍ منارةً للفكر ومشعلًا لثقافة الانفتاح”.

بلى… كثيرين رأَيتُهم بين أَجنحة دُور النشر، حُجَّاجًا إِلى حالةٍ ثقافية كم جعلَت بيروت منارةَ المشرق بجمالها الفريد العجائبيّ. أَقول “جمالها” وأُؤْمن أَنَّ لبيروت جمالَ روحٍ وجمالَ حنانٍ وجمالَ عطاء. فمَن منا لا ينحاز إِليها لشُربة نبض؟ ومَن مِن العرَب لم يسْعَ إِليها واحةَ انطلاق؟ ومَن مِن الغرب لم تَلمَع عيناه رُنُوًّا إِلى مدينتنا الغالية، بيروت الكوزموبوليتية التي صهرَت فيها جميع الهويات الوافدة، وظلَّت شاهرةً هوية واحدة: لبنان اللبناني؟

لكأَنها، هذه البيروت الأُعجوبية، مكافأَةُ الزمان لأَهل لبنان، يتعلَّقُون بها كأَنها بيتُهم للاستدامة أَو للإِقامة، وفي كلتَيهما شغفٌ إِليها غوايةً أَو حماية. إِنها المدينة المفتوحة على خيرات الإِبداع وغلال الطمأْنينة. إِنها الواحة التي لا يجفِّفها عُقوقٌ لأَنها تَغفِر، ولا يقصفُها انفجار لأَن فيها “نبتة الخلود”، ولا يستحقُّها حكَّامُها لأَنهم أَقزام يتولَّون حُكْم مدينة تاريخية.

تنتهي ندوتُنا، أُغادر قاعة المحاضرات إِلى الممرَّات بين أَجنحة المعرض، أَغتبط لهذه الحشود المؤْمنة برسالة الكتاب. أَخرج من مبنى المعرض (واجهة بيروت البحرية) تصدمُني أَخبار سياسية تافهة كأَصحابها. أَلْتفِتُ مجدَّدًا إِلى داخل المبنى، أَرى لبنان الفكر والثقافة والتراث يَعلو فوق الآنيَّات السياسية، متجاهلًا دولةً تَدُول بفاسديها الأَشرار، محتَقِرًا سلطةً تَزُول بأَبَالستها الخَوَنة الكُفَّار، ليبقى لبنان الوطن خالدًا في الزمان أَرزًا تراثيًّا لا يدُول ولا يزُول.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى