أوروبا الخائفة من روسيا القَلِقَة من أميركا

محمّد قوّاص*

لم يبتعد الرئيس الأميركي جو بايدن عن شعارِ سلفه دونالد ترامب في أن “أميركا أولًا”. وفيما ذهبَ السَلَفُ بعيدًا في الخصومة مع أوروبا والأطلسي دفاعًا عن مصالح أميركا وتخفيفًا لأعباءِ دورها الدولي، فإن الخَلَفَ، وعلى الرغم من سعيه إلى رأب الصدع مع الحلفاء، انتهجَ سياساتٍ داخلية وخارجية تُثيرُ قَلَقَ أوروبا.

وفق هذا السياق حمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ملفّاته إلى واشنطن. شيءٌ من الكيمياء تجمعه مع نظيره الأميركي جعلت من الإليزيه قريبًا من البيت الأبيض على الرُغمِ من اختلافِ الرُؤى في المسائل المُشتركة كما تلك الدولية الكبرى. لاحظت صحافة واشنطن مُعاملةً خاصة يخصّها الرئيس الأميركي لضيفه الباريسي لم تحظَ بها شخصيات لندن وبرلين. فزيارة ماكرون هي أول زيارة دولة منذ تولّي بايدن منصبه.

خلافٌ كبيرٌ لم يعد مكتومًا بشأن تداعيات الإجراءات الاقتصادية الحمائية التي تتخذها إدارة بايدن للدفاع عن اقتصاد أميركا على أوروبا. أصدرت فرنسا وألمانيا، رُغمَ ملفّات التباين بينهما، موقفًا مشتركًا يدعو لجهد أوروبي شامل للتصدّي لقانون خفض التضخم الأميركي  (Inflation Reduction Act). ومَن يُراقبُ القانون، الذي أصبح نافذًا في آب (أغسطس)، بما يمنحه من دعمٍ لصناعات الولايات المتحدة وتحفيزٍ للمُستهلك لشراء صناعاتٍ أميركية، خصوصًا تلك التي تُكافِحُ التغيّر المناخي، سيفهم تمامًا ما يسببه الأمر من كوارث على الصناعة الأوروبية والعاملين بها والمستثمرين في قطاعاتها.

سيكون عسيرًا عدم الدفاع عن رئيسٍ أميركي مُنتَخَب يعمل مع إدارته على الدفاع عن مصالح بلاده واقتصادها واستقرارها. وسيكون صعبًا أيضًا تفسير معاني التحالف الغربي بين ضفّتَي الأطلسي إذا ما باتت المنافع الذاتية لكلِّ دولة هي الفيصل والمعيار في العلاقات الدولية. فأوروبا التي تكتشف مخالب أميركا في عهد الرئيس الديموقراطي الحالي كانت في عهد الرئيس الجمهوري قد خبرت مخالبها حين فرضت تعرفات جمركية عالية على صادراتها طالت حتى نبيذ فرنسا الشهير.

يعترف ماكرون في واشنطن بأن من حقّ أميركا أن تكون “أوّلًا”، كما من حِّق أوروبا وفرنسا أن تستميت لصون مصالحهما. بَيدَ أن أمر قانون خفض التضخّم الأميركي قد يؤدّي إلى “تشظّي الغرب” حسب كلمات الرئيس الفرنسي.

وفق هذه الفرضية، أيًّا كانت وجاهتها ودقّتها، فإن مستقبل التحالف على المحك، ليس فقط في كيفية مقاربة الموقف من روسيا والحرب في أوكرانيا، بل في تموضع فرنسا والاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي في العلاقة مع الصين، وهو الملف الأشد حساسية لدى كافة إدارات البيت الأبيض، جمهورية كانت أو ديموقراطية.

يُسايرُ الأوروبيون بشقِّ النفس الأميركيين في موقفهم من الصين. باتوا في بياناتهم يُحذّرون من خطرٍ استراتيجي يُشكّله نظام شي جين بينغ في بكين، لكنهم لم يذهبوا ولا يبدوا أنهم يريدون الذهاب بعيدًا في رفع الجدران أمام العملاق الآسيوي. وليس تفصيلًا أن تُصادِفَ زيارة رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال إلى بكين مع زيارة الرئيس الفرنسي لواشنطن. يتذكّر ماكرون بمرارة كيف أطاحَ تحالف “اوكوس” بين أوستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة بصفقة غواصاتٍ فرنسية إلى كانبيرا. يتذكّر أيضًا ردّ فعل بايدن التبسيطي: “ما كنت أعلم”.

يُمثّلُ ماكرون فرنسا والفرنسيين طبعًا في محادثاته مع بايدن، لكنه أيضًا، منذ تقاعد المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، يحتل الصدارة في تمثيل تجمّعٍ لـ27 دولة في أوروبا لا مَصلحة لواشنطن في توسيع الخصومة معها. يُريدُ ماكرون، حسب صحيفة ” لو موند” الفرنسية، أن تُظهرَ المناسبة “وجه أوروبا الحقيقي”. وإذا ما يختلف الأوروبيون في مسائل توزيع أعباء الهجرة وسياسة استبدال الطاقة من روسيا وكيفية مقاربة الحرب في أوكرانيا، إلّا أنهم جميعًا قلقون مما ستُقرّره واشنطن في سياساتها الخارجية، لا سيما في مستقبل الحرب التي تدور في قارتهم، وتلك الداخلية التي تتخذ إجراءات اقتصادية تهزّ أركان مصانع أوروبا وبالتالي اقتصادها.

على أن الخطابَ الرسمي الصادر عن لندن في أوروبا وباريس وبرلين وغيرها (داخل الاتحاد الأوروبي) ما زال صقوريًّا ضد روسيا مُتَمَسِّكًا بتطوير ترسانة أوكرانيا العسكرية. الأمر ما زال يتّسق تمامًا مع موقف الولايات المتحدة حتى بعد الانتخابات النصفية الأخيرة. لكن ماكرون وبعض أوروبا، وعلى خلاف مؤسسات السياسة والأمن والعسكر في واشنطن، يدعون إلى مرونة ما وحوار ما مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

يلتقي هذا الخطاب مع ما كان لمّح إليه رئيس هيئة الأركان الأميركية الجنرال مارك ميللي عن “نافذة تسوية” في أوكرانيا في الشتاء، بما يكشف أن الجدل حول التسوية الذي يتردد في أوروبا بدأ يتسلل إلى الولايات المتحدة وداخل المؤسسة العسكرية بالذات.

لا تملك أوروبا أن تختلفَ كثيرًا عن موقف أميركا. الحرب تدور في أوروبا لكن المخاوف في القارة من روسيا القريبة هي أكبر من تلك التي تنتاب الولايات المتحدة البعيدة، وأيُّ ضعفٍ في موقف واشنطن يمنح موسكو إطلالاتٍ أثقل على عواصم القارة العجوز.

بالمقابل لا تستطيع الولايات المتحدة أن تخوضَ “حربها” في أوكرانيا ولا شرعية ومنطقًا لأيِّ دعمٍ عسكري أميركي لأوكرانيا من دون الاحتضان الكامل من قبل بلدان أوروبا وخصوصًا تلك الحدودية والكبرى. غير أن ماكرون في واشنطن مالَ كثيرًا إلى رؤى واشنطن كاشفًا عن شهادةٍ شخصية تؤكّد السعي السابق لأوكرانيا للحوار منذ اتفاقات منسك والعزم الدائم لروسيا على شنّ الحرب. لكن الرجل انتزع من بايدن جملة سحرية: “أنا مُستعِدٌّ أن أتكلم مم بوتين”.

سيكون في بال بايدن أن موقعَ بلاده في العالم كما استمرار صدارتها وفق شعاره “عادت أميركا” لا يمكن أن يجري إلّا بتمتينِ التحالف مع أوروبا قوية على عكس ما أظهره خصمه السابق، وربما المقبل، دونالد ترامب من ازدراءٍ للأوروبيين والأطلسيين وتميّز في علاقاته مع الزعيمين الروسي والكوري الشمالي.

وسيكون في أجندة بايدن أيضًا أن صراعَ بلاده الكبير مع الصين لن ينتهي إلى مآلاتٍ واعدة إذا ما سهُل على بكين استمالة أوروبا “الضعيفة” بالجملة أو المفرّق. والأرجح أن واشنطن ستبحث بجدية عن سُبُلٍ صعبة يُرضي بها الديمقراطيون السوق المحلية وما تختزنه من ناخبين لانتخابات 2024، وتُعيدُ طمأنة اقتصادات أوروبا التي تُعاني الحرب أساسًا وما أنتجته من تحوّلاتٍ غير مسبوقة في سوق الطاقة.

إحتفى بايدن كثيرًا بالرئيس الفرنسي وزوجته اللذين حملا للزوجين بايدن هدايا فرنسية ثمينة. ليس الأمر مصادفة بل إن في الرمزيات ما يُمكنُ أن يكشفَ توجّهات البيت الأبيض وما يَوَدُّ إظهاره من رعايةٍ للضيف وما يُمثّله والدور الذي يقوم وما قد يقوم به.

فإذا ما قرّرت واشنطن استعارةَ طريقٍ آخر صوب روسيا فإن ماكرون مُؤهّلٌ للقيام بمهامٍ ما بَرِحَ يدعو إليها. غير أن بايدن الذي تقاسم عشاءً فخمًا مع ماكرون قد لا يستطيع أن يُبادله الهدايا بأخرى أميركية يعتذر فيها عن قوانين اقتصادية أميركية المَرامي هي مفاتيح لأبواب البيت الأبيض بعد عامين. هنا كان بايدن أمام ضيفه حازماً: “الولايات المتحدة لا تعتذر”.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى