رَئيسٌ لا يَطعَنُ اللّبنانيين في الظَّهر

محمّد قوّاص*

لن يَقبَلَ مَنطِقُ التاريخ أن يختصرَ لبنان “المقاومة” بتنظيم “حزب الله” وحده دون غيره. وليس من اختصاصِ مَنظومةِ الحُكمِ المُتناسِلة من ظروفِ تَشَكُّلِ السلطة بعد اتفاقِ الطائف أن تفرضَ على اللبنانيين وطوائفهم، بما في ذلك الطائفة الشيعية، مُقاومةً من نمطٍ واحدٍ ولونٍ واحدٍ بصفتها قيمة مطلقة شاملة وحصرية، تنتفي معها وبها المقاومات التي آمن بها اللبنانيون في كل مرحلة وحقبة.

لأهلِ العروبة مقاومتهم، وللمسيحيين مقاومتهم، ولليساريين مقاومتهم، وللعلمانيين والليبراليين مقاومتهم. وأيًّا كانت طبيعة هذه المقاومة عسكرية أو سلمية، نقابية أو ثقافية سلاحها الكلمة، فإنها تحفرُ في وجدان أصحابها ذاكرةً تَنهَلُ منها شرعيةَ وجودٍ وحضورٍ وبقاء. وإذا ما قُيِّضَ لـ”حزب الله” أن يَحتَكِرَ “المقاومة” بذاته، فذلك أنه ساهمَ بالدم إلى جانب قوى قهرية أخرى كانت تقودها دمشق في إفناءِ أيِّ مقاوماتٍ أخرى.

المقاومة التي ما انفك يُطالِبُ “حزبُ الله” وزعيمه بحمايتها مُبرّرًا للضرب من حديد، سواء اغتيالًا أم تهويلًا أم تعطيلًا أم غزوًا على مثال “7 أيار” الشهير، تعني حزبًا سياسيًا واحدًا له أجندات خارجية يفتخرُ بها ويُدافعُ عنها ويتحرّكُ وفقَ أهوائها. وحين طُعِنَ لبنان بالثلاثية “الخشبية”، وفق وصف الرئيس اللبناني الأسبق ميشال سليمان، فأُتحِفَ اللبنانيون إلى حدّ الإفحام بشعار “الشعب والجيش والمقاومة”، فإن المقصود كان طبعًا هو “الشعب والجيش والحزب”، فيسقط الشعب حين يعبّر عن امتعاض وتبرّم، ويسقط الجيش حين يعبّر عن حياد وتفهّم، ليبقى الحزب حاكمًا وناظمًا لحياة البلد ومواطنيه.

سبق لنائب الأمين العام للحزب، الشيخ نعيم قاسم، أن نفى وجود جناح سياسي وجناح عسكري لحزبه. ولئن يصرّ “حزب الله” على وصف نفسه بـ”المقاومة” واحتكارها وإنكارها عن غيره، وما دام لا يريد أن يميّز نفسه كحزبٍ سياسي عن “المقاومة” ولا ينفكّ  يتلطى خلفها لتحصين نفسه أمام جمهوره الحاضن وبقية اللبنانيين، فحريّ تسمية الأسماء بأسمائها.

“المقاومة” هذه التي أتت بالتحرير في العام 2000 هي نفسها التي تشاركت مع منظومة الحكم والأوصياء عليها، حين كانت تلك الوصاية دمشقية أو متسللة من طهران، في السهر على رعاية وحماية منظومة فساد أوصلت لبنان إلى الدرك الذي وصل إليه.

“المقاومة” هذه بالذات هي التي منعت عقائديًا قيامَ الدولة بالمعنى المُتعارَف عليه، بصفتها المرجع السياسي الوحيد للبنانيين والمُحتَكِرة ب”جيشها” مهمّة الدفاع عن البلد ومواطنيه. والأمر ليس تهمة متعجّلة فيها افتراء، بل إن في أدبيات الحزب ومواقف مسؤوليه رفضًا علنيًا للتسليم بالدولة، وانتظار أن تأتي “الدولة العادلة” التي أوحى بها أفلاطون، وتَعِدُ بها عودة المُخلّص عند شريحة من المؤمنين أو عودة المهدي عند شريحة أخرى.

هذه “المقاومة” بالذات مسؤولةٌ عن حالة العزلة التي انحدر إليها البلد، بحيث انفضّ من حوله الأشقاء والحلفاء والأصدقاء والدول التي لطالما كانت في تاريخه مانحةً حريصةً على أمنه واستقراره وبحبوحته وازدهاره. وإذا ما كشف مشهد البرلمان الذي خرجت به الانتخابات التشريعية في أيار (مايو) تشظّيًا واختلالًا في التوازنات داخل المشهد السياسي العام، فإن في تصويت اللبنانيين، على محدوديته، وفي خروجهم قبل ذلك إلى الشوارع في العام 2019، على أهمّيته واتساعه، أعراضُ تمرّدٍ ضد الأمر الواقع الذي أرادته “المقاومة”، مسلّمة نهائية لا تحتمل استهانة أو اختراقًا.

في بعض ما سُرِّبَ من مُقرَّبين من “حزب الله”، أن زعيمه جمع كوادر حزبه وطالبهم بقراءة تاريخ المنطقة. وإذا ما كان ما تسرّبَ دقيقًا فهو اعترافٌ بمدى الجهل في هذا التاريخ الذي قام عليه حراك الحزب وسلوكه، بحيث فرض على لبنان بالذات واقعًا لا يُشبِهُ تاريخه ولا يأخذ بالاعتبار حكايةَ تشكّله وخصوصيات طوائفه وحساسيّات تعدّده ومصالح المحيط في دائرتَيه القريبة والبعيدة.

ومَن يَقرَأُ التاريخ جيّدًا لا يُمكنُ أن يدّعي القدرة على كتابته بقلمٍ واحدٍ وحبرٍ من لونٍ واحد. وإذا ما اختلفَ اللبنانيون في تعدّدهم على مرِّ التاريخ في تعريف طبيعة بلدهم، فذلك ينفي قدرةَ أيِّ طرفٍ مهما كثر سلاحه وأعماه الزعم بقوّته على كتابة نصٍّ واحدٍ لهذا البلد في الغَرفِ من عقائد متوارثة وقراءة مشوّشة للعالم وخرائطه.

واللافتُ أنَّ الحزبَ الذي يختالُ مزهوًّا بقوّته يتصرّفُ بارتباكٍ وقلقٍ لا يُعبِّرُ إلّا عن ضعفٍ يعرفه ونستنتجه. يرى الحزبُ أنَّ رئيسًا في بعبدا يمكن أن يهدد جبروته. حتى أنه في مواصفات رئيس تنحصرُ بمن يشبه إميل لحود وميشال عون بدا معترفًا بعزلته وعجزه عن تخيّل رئيس يقبل بواقعه. أما في الردح بأنه “لن يكونَ رئيسٌ إلّا كما نُريد” وفق فحوى كلام رئيس كتلة الحزب في البرلمان، محمد رعد، إقرارٌ آخر بأنه رُغمَ ما يدّعيه الحزب من سطوةٍ فائضة واحتضانٍ ونفوذٍ مُتَخَيَّلَين، لا يزال سلاحه فقط مُبرِّرَ وجوده ووسيلةَ عيشه وملجأه الوحيد.

وإذا ما يطالبُ زعيمُ “حزبِ الله” برئيسٍ للجمهورية في لبنان “لا يطعن المقاومة في الظهر”، فتلك وظيفة ليست من اختصاصِ أيِّ رئيسٍ في البلد وليست من مهامِه الدستورية. وما يريده اللبنانيون، خصوصًا بعد تجربة الرئيس السابق ميشال عون الذي انتهت ولايته من دون خلفٍ وأَسَف، هو انتخابُ رئيسٍ لا يَطعَنُ بهم وببلدهم وبدستورهم، وتكونُ أولويّته البلد ومواطنيه وشؤونه وهمومه، وتكون أهدافه مُنصَبّةً على مصالح لبنان كل لبنان، ولا تنحصرُ التزاماته بصون وحماية ورعاية سلاح حزب يُريدُ أن يكونَ حاكمًا.

من واجبِ الرئيسِ اللبنانيِّ الجديد أن يكونَ المُقاومَ الحقيقي الذي تجبّ بعده، على رأس الدولة وممثلًا لها، كل المقاومات. وقد تفرضُ موازين القوى مرشح “حزب الله” رئيسًا للجمهورية. فالحزب لا يزال يملك سطوة الفعل من دون رقيب أو حسيب. يبقى التذكير بأن مرشح “حزب الله” ميشال عون لم يكن ليُنتخَب رئيسًا في العام 2016 لولا الصفقات التي أبرمها زعيما حزب “القوات اللبنانية” و”تيّار المستقبل”.

يبحثُ الحزبُ هذه الأيام عن صفقاتٍ من هذا النوع تُنعِشُ آمالَ مُرَشَّحه. غير أن الحزبَ يعرفُ ومرشَّحي الصفقات المُحتَمَلة يعرفون أن التمويل الخارجي الذي تَعِدُ به المؤسسات المالية الدولية وعواصم الدول المانحة، وخصوصًا العربية-الخليجية منها، لن يضخَّ إنقاذًا ماليًّا لرئيسٍ يفرضه سلاح الحزب وطهران من خلفه… أمرٌ يُدرِكه الحزبُ جيدًا في إفراطه المتوتّر في إعلان شروط مواصفات رئيس لبنان العتيد.

قامت عقيدةُ السلاحِ على أنه وسيلةٌ لحمايةِ البلد والدولة. بات السلاحُ في عُرفِ أصحابه ضعيفًا خائفًا، يتوسّل حمايةً من دولةٍ يرأسها مُرَشَّح السلاح وأصحابه.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى