كَيفَ سَجَّلَت قطر أهدافًا سياسِيَّة

يبدو أن قطر نجحت في استخدام كرة القدم كأحد أبعاد استراتيجيتها للأمن القومي. كيف تمَّ ذلك؟

الشيخ تميم بن حمد: ماذا عن “استراتيجية ما بعد كأس العالم”؟

فرانسيسكو سيكّاردي*

بالنسبة إلى المواطنين القطريين، سيكون 18 كانون الأول (ديسمبر) يومًا مُمَيَّزًا. في الصباح، سيجتمعون معًا للاحتفال باليوم الوطني للبلاد، وفي المساء، سيتحلّقون لمشاهدة المباراة النهائية لكأس العالم لكرة القدم للرجال، والتي تَنطَلِقُ في الدوحة يوم الأحد المقبل. هذه المُصادفة السعيدة هي تتويجٌ لاستراتيجية قطر لكرة القدم: جعل هذه الرياضة نقطة انطلاق صعودها الدولي – وضمان أمنها القومي.

في العقدين الماضيين، أصبحت كرة القدم أداةَ قوة ناعمة للعديد من الدول الغنية، من دول الخليج العربي، إلى روسيا، إلى دول جنوب شرق آسيا. من السهل فهم السبب: كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية في العالم، ويُشاهدها المليارات من المُشَجِّعين في جميع القارات. إن استثمارات كرة القدم، التي تتطلّب مبالغ نقدية ضخمة، تضمن ظهورًا عالميًا وإيراداتٍ مالية مُذهلة.

لكن بالنسبة إلى قطر، فإن كرة القدم لا تتعلّق فقط بإعطاءِ صورةٍ دولية إيجابية، أو تعزيز السياحة، أو تنويع الاقتصاد بعيدًا من الغاز الطبيعي، بل هي أيضًا ضامنة لأمن البلاد، وتحميها من الاهتمامات غير المرغوب فيها من الجيران المُعادين.

بدأ القادة القطريون وضع هذه الاستراتيجية في أوائل التسعينيات الفائتة، بعد وقتٍ قصيرٍ من انتهاء حرب الخليج الأولى. لقد كانوا قلقين من أن بلدهم، الذي يتمتّع بموارد طبيعية غير محدودة تقريبًا ولكنه مُحاطٌ بأعداء ومنافسين أقوياء، يمكن أن يُعاني مصير الكويت نفسه -غزو من قبل جارٍ أكبر. بعد وصوله إلى السلطة في العام 1995، تحرّك حاكم البلاد آنذاك الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني على جبهاتٍ مختلفة لتأمين مستقبل قطر.

لضمان الأمن المُشَدَّد، افتتح في العام 1996 قاعدة العديد الجوية –والتي تُعَدُّ اليوم أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط. في ما يتعلق بالقوة الناعمة، أطلق الأمير قناة “الجزيرة” الفضائية، التي أصبحت واحدة من العلامات التجارية القطرية الأكثر شهرة وأداة تأثير هائلة في المنطقة وخارجها. في السنوات التي تلت ذلك، استثمرت الدوحة في شركات عالمية بارزة للغاية، مثل “هارودز” (Harrods) و”ميراماكس فيلمز” (Miramax Films) و”رويال داتش شل” (Royal Dutch Shell) و”بورشه” (Porsche). كان الحساب أنه كلما تحدّث العالم عن قطر، قلَّ إغراءُ جيرانها للقيام بعمل عدواني ضدها.

أصبحت الرياضة الدولية بسرعة أداةً رئيسة لهذه الإستراتيجية. اشترت قطر قرية الألعاب الأولمبية التي أُقيمت في لندن في العام 2012، والتي حوّلتها إلى شققٍ فاخرة، وكانت الراعي الأول على الإطلاق لحدث سباق الخيل الملكي البريطاني “أسكوت” في العام 2014. وأصبحت الدولة أيضًا مكانًا رئيسًا للأحداث الرياضية الدولية. استضافت قطر أكثر من 20 حدثًا من الدرجة الأولى والثانية منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بما في ذلك الألعاب الآسيوية لعام 2006، وبطولة العالم للدراجات لعام 2016، وبطولة العالم لألعاب القوى لعام 2019.

لكن كرة القدم، بشعبيتها المتزايدة وإيراداتها الهائلة، نقلت هذه الإستراتيجية إلى مستوى مختلف. الواقع أن بقية الأحداث الرياضية التي تستضيفها قطر تتضاءل مُقارنةً بكأس العالم 2022، وهو حدثٌ عالمي حقيقي من المتوقع أن يشاهده عبر التلفزيون أكثر من 5 مليارات شخص. لقد أنفقت قطر 220 مليار دولار في التحضير للبطولة، وبناء الملاعب الجديدة والمستشفيات والفنادق والمطارات وشبكات النقل. ومن المتوقع أن تُحقّق نهائيات كأس العالم إيرادات بقيمة 9 مليارات دولار للدوحة – بالإضافة إلى الشهرة والمجد في جميع أنحاء العالم بالطبع.

منذ أن مُنِحَت قطر حقوق استضافة كأس العالم في العام 2010، وسط مزاعم واسعة النطاق بالفساد، أصبحت الدولة الخليجية قوة كرة قدم عالمية. لقد فعلت ذلك من خلال استراتيجية مُفَصَّلة تطورت في ثلاثة اتجاهات:

أوّلًا، ربطت قطر نفسها بأفضل أندية كرة القدم في العالم –إما من طريق الرعاية المُربحة أو السيطرة المباشرة. اعتاد المُشَجِّعون في الوقت الحاضر على رؤية اسم قطر على قمصان أنديتهم الوطنية الأكثر نجاحًا، من نادي برشلونة في إسبانيا إلى بايرن ميونيخ في ألمانيا إلى بوكا جونيورز في الأرجنتين. ويُعتَبَرُ نادي باريس سان جيرمان الفرنسي جوهرة تاج كرة القدم في قطر. استحوذت شركة قطر للاستثمارات الرياضية التي تسيطر عليها الحكومة على نادي باريس سان جيرمان في العام 2011، ما جعله أحد أنجح الأندية الأوروبية. الرجل الذي اختير لقيادة النادي، ناصر الخليفي، هو مدرب تنس سابق ومُقرّب من الأمير تميم بن حمد آل ثاني، الذي خلف والده الشيخ حمد بن خليفة في العام 2013. مع أدواره القيادية في اللجنة التنفيذية للاتحاد الأوروبي لكرة القدم واتحاد الأندية الأوروبية، يُعتبر الخليفي أحد أقوى اللاعبين في كرة القدم العالمية اليوم.

كانت السيطرة على حقوق البث الدولي وسيلة ثانية لتوسّع قطر في عالم كرة القدم العالمية. اليوم، يشاهد مئات الملايين من مُشجّعي هذه الرياضة مباريات كرة القدم على شبكة الرياضة القطرية “beIN Sports”، التي تصل إلى 43 دولة في خمس قارات، مع قنواتٍ باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية والتي يترأسها أيضًا الخليفي. وعلى غرار قناة الجزيرة، تُعَدُّ “BeIN” أداةً قوية للتأثير الإقليمي –على الأقل، هذا ما يعتقده منافسو قطر.

أخيرًا، كانت الاستثمارات المحلية الضخمة هي الطريقة الثالثة لقطر لتحسين مكانتها الكروية الدولية. “أكاديمية أسباير”، التي تأسّست في العام 2004، هي واحدة من أشهر برامج تطوير مواهب كرة القدم في العالم. تستكشفُ كل عام 5,000 طفل قطري تبلغ أعمارهم الحادية عشرة، وتُقدّمُ المنح التعليمية للأكثر موهبة حتى سن الثامنة عشرة. من خلال إعطاء الأولوية للاعبين المولودين في قطر وكذلك الشباب غير القطري المولد –عادةً أطفال المهاجرين الاجتماعيين والاقتصاديين الذين عاشوا معظم حياتهم في قطر– حسّنت “أكاديمية أسباير” جودة حركة كرة القدم في قطر بشكلٍ كبير. كما أعادت تعريف معنى أن يكون الإنسان قطريًا.

لكن هل استراتيجية كرة القدم القطرية تؤتي ثمارها في النهاية؟ بالنظر إلى الطريقة التي انخرط بها كل من “باريس سان جيرمان” وقنوات “BeIN Sports” والمُنتَخَب القطري في الجغرافيا السياسية في السنوات الأخيرة، سوف يستنتج المرء أن الجواب هو نعم. في الأيام الأولى من حصار دول الخليج لقطر، كان “باريس سان جيرمان” أداةَ اتصالٍ هائلة. بعد أسابيع قليلة من بدء الحصار، وقّع الفريق صفقاتٍ قياسية للحصول على قائد المنتخب البرازيلي نيمار والنجم الفرنسي الصاعد كيليان مبابي. جلب حجم الاستثمار، الذي تجاوز 450 مليون دولار للاعبين، اهتمامًا غير مسبوق لقطر وقوتها المالية غير المحدودة تقريبًا في وقت كان من المفترض أن تكون الدولة معزولة دوليًا. رُغمَ أن علاقاتها الإقليمية كانت في الحضيض، كانت قطر في ذروة شهرتها العالمية.

سرعان ما امتد الخلاف الخليجي إلى حقوق بث كرة القدم أيضًا. في أواخر العام 2017، بدأت قناةُ تسمى “beoutQ”، والتي تم تتبع أصولها بسرعة إلى المملكة العربية السعودية، تُقرصن بث محتوى “BeIN” بشكل غير قانوني، ما تسبّب في إلحاق ضرر كبير بصورة قطر ومواردها المالية. بعد سنواتٍ قليلة من الجدل وبدعم من البطولات الأوروبية الكبرى لكرة القدم، كان لقطر الكلمة الأخيرة في هذا الشأن. في العام 2020، قضت منظمة التجارة العالمية بأن المملكة العربية السعودية قد انتهكت القواعد العالمية لحقوق الملكية الفكرية من خلال عدم ملاحقة التلفزيون المُقَرصِن.

وتُرجِمَت التوترات بين قطر وجيرانها في ملعب كرة القدم أيضًا. حتى يومنا هذا، ربما يظل الفوز على الإمارات العربية المتحدة في نصف نهائي كأس آسيا 2019 أكثر اللحظات فخرًا في تاريخ كرة القدم القطرية. أُقيمت المباراة المشحونة سياسيًا في أبو ظبي أمام جمهور مُعادٍ تمامًا لقطر – ولم يُسمح إلّا للمُشَجِّعين المحلّيين دخول الملعب. مع فريقٍ تم تطويره بالكامل تقريبًا في “أكاديمية أسباير”، هزمت قطر الإمارات 4-0، ثم ما لبثت بعدها أن فازت بالبطولة في المباراة النهائية ضد اليابان. وغاب المسؤولون الإماراتيون عن حفل توزيع الجوائز وطعنوا في النتيجة بعد ذلك.

كما أن العديد من المراقبين زعموا أن كأس العالم 2022 لعبت دورًا في إنهاء الحصار الخليجي في أوائل العام 2021. بعد محاولة فاشلة لتجريد قطر من البطولة، اضطر جيرانها في النهاية إلى إنهاء الحظر من أجل المشاركة في الإيرادات التي ستجلبها البطولة إلى المنطقة.

حسابات الدوحة الأولية – أنه كلما تحدّث العالم عن قطر، قلَّ خطر العدوان – لا تزال صحيحة. لكن كرة القدم جلبت الكثير من الصحافة السيئة لقطر أيضًا. تم تسليط الضوء على ظروف السلامة والرفاهية السيئة للعاملين في بناء البنية التحتية لكأس العالم، والأثر البيئي الكبير للبطولة، والحماية غير الكافية لحقوق المرأة والمثليين في الدولة الخليجية. لكن يمكن للدوحة أن تتجاهل كل الانتقادات: لقد تم بالفعل كسب أكبر جائزة لكأس العالم ــ الشهرة على مستوى العالم.

ولكن إذا كانت كأس العالم هي لحظة التتويج لاستراتيجية قطر لكرة القدم، فهي أيضًا نقطة تحوّل في السياسة الخارجية للبلاد. عندما تنتهي البطولة، ستحتاج الدوحة إلى التفكير في طُرُقٍ جديدة لتعزيز طموحاتها الدولية. ستتطلّب “استراتيجية ما بعد كأس العالم” من الأمير تميم إعطاء مضمونٍ جديد للموقف العالمي للبلاد – من موازنة موقفها بين الصين والولايات المتحدة إلى المساعدة في إصلاح نقص الطاقة في أوروبا وأن تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة الخضراء. في حين أن هذا قد يُمثّلُ تحوّلًا نحو المزيد من الأمور الأمنية الصعبة، فإن القرارات الأخيرة التي تمنح قطر حقوق استضافة كأس آسيا لكرة القدم 2023 والألعاب الآسيوية 2030 تشير إلى أن اهتمام الدولة الشديد بالقوة الناعمة لكرة القدم – والرياضة – سيظل قائمًا.

  • فرانسيسكو سيكّاردي هو باحث، مدير أول للبرنامج ومحلّل أبحاث أول في “كارنيغي أوروبا”. يمكن متابعته عبر تويتر على: @fsiccardi
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى