لماذا تَعتَرِفُ إيران مُتأخِّرةً بالتّورُّطِ في حربِ أوكرانيا؟

محمّد قوّاص*

فجأةً قرّرَت طهران تَقديمَ روايةٍ رسميةٍ جديدة عن قضية تقديم أسلحة إيرانية الصنع إلى روسيا. وبغضّ النظر عن صدق الرواية التي سارع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي إلى وصفها بالكاذبة، فإن ما يرومه نظام الجمهورية الإسلامية هو التقدّم علنًا بصفته لاعبًا في الحرب في أوكرانيا، لكن الأهم من ذلك، أنه من خلال رواية وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، يمسّ سمعة روسيا العسكرية ويبعثُ برسالةٍ باتجاه الغرب حول أرضيات التفاهم.

ينفي الوزير الإيراني تزويد روسيا صواريخ إيرانية باليستية، ويقرّ، ويكاد يكون مُفتَخِرًا يملأه زهوٌّ مكتوم، بأن بلاده قد زودت فعلًا روسيا بـ”عدد محدود من المُسيّرات”. ثم يذهب إلى لعب دور كبار هذا العالم بعَرضِ واقعةٍ أن الأمر حصل قبل اندلاع الحرب ضد أوكرانيا، وأن العقد مع موسكو يَفتَرِضُ أن لا يسمح لأسلحةٍ إيرانية الصنع بأن تُستخدَم ضد أوكرانيا.

يَعِدُ عبد اللهيان بأن إيران ستتخذ موقفًا من روسيا إذا قدّمت أوكرانيا أدلّة (ستدرسها طهران) على انخراطِ مُسيّرات إيرانية الصنع في الهجوم الروسي هناك. يسهل على الطرف الأوكراني إثبات ذلك في ظلِّ ما أعلنه زيلنسكي من أن قوات بلاده تُسقِطُ عشرات المُسيّرات الإيرانية كل يوم. وسيسهل على إيران نفي التهمة في ظل تعقّد إثبات أن المُسيّرات، المُصَنَّعة أساسًا للاستخدام المُقَنَّع، سواء من قبل فصائلها التابعة أو من قبل زبائن آخرين بينهم روسيا، هي إيرانية الصنع.

أما إذا تعذّر حجب هوية المُسيّرات وانكشفت هويتها بالدليل والبرهان، فإن طهران، من خلال رواية وزيرها، باتت جاهزة للتنصّل من أي مسؤولية والتبرّؤ من إثمٍ ترتكبه موسكو من وراء ظهرها باختراقِ نصوصِ عَقدِ التسلّح المزعومة بين العاصمتين. هكذا تمامًا وَعَدَ عبد اللهيان العالم بـ”اتخاذ موقف” إذا ثبت أن الحليف الروسي ارتكب ذلك الإثم. لكن الواقعة تفصح أيضًا عن جوانب تتكشّف في علاقةِ روسيا وإيران تقوم على حقيقةِ تراجع قوة موسكو وهيبتها بسبب حرب أوكرانيا وإمكان أن “تتطاول” دولٌ يُفترَض أنها ليست “جبارة” بالتهديد بـ”موقف” أو لَوم أو تأنيب.

سلّمت كل الدراسات الدولية المُشتَغِلة على رصد موازين القوى العسكرية في العالم خلال العقود الأخيرة على أن روسيا هي أول قوة نووية وثاني أكبر قوة عسكرية في العالم. ضربت الحرب الأوكرانية مُسلّمات الدارسين، وأفصح الأداء العسكري الروسي عن ترنّح وتصدّع وارتباك لم تكن أجهزة المخابرات الغربية تتوقّعها.

تؤكّدُ تصريحات وزير الخارجية الإيراني هذا الأمر، بحيث إن روسيا التي توعّد رئيسها فلاديمير بوتين العالم بصواريخ فرط صوتية وأسلحة حديثة ذات قوة تدميرية هائلة، والتي منذ حروبها في الشيشان وجورجيا وسوريا والقرم توحي بفائض قوة استراتيجي رهيب، تذهب للبحث عن أسلحة في إيران أو كوريا الشمالية كما تشيع التقارير ومصادر تسلّح أخرى. لا بل إن إيران، كما حال موردي الأسلحة الكبار، تزعم التبرّم من عدم احترام شروط العقود وتَعِدُ بردّ  فعل قد تذهب، شأنها في ذلك شأن ما تنتهجه الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، إلى تعليق عقود التسليح لهذا الزبون أو ذاك.

في السياسة تردّ إيران لروسيا جميل وقوفها عسكريًا إلى جانبها في حربها في سوريا.

وفي السياسة في ردّ فعل عبد اللهيان، تردُّ طهران على موقف روسيا الملتبس في سوريا بشأن تواطؤ موسكو وصمتها المريب بشأن الضربات الإسرائيلية ضد البنى التحتية العسكرية الإيرانية في هذا البلد.

وفي السياسة أيضًا تُخاطِبُ طهران المجتمع الغربي من خلال تأكيدها النأي بالنفس عن حرب أوكرانيا، والسعي إلى تجنّب غضب جماعي أطلسي قد يتحوّل إلى مزيدٍ من العقوبات عليها. لكنها في المقابل تُنَبِّهُ هذا الغرب إلى ما يمكن أن يفعله انحيازٌ إيراني مكشوف في ميادين الحرب في أوكرانيا.

وفي السياسة أخيرًا، يهدف الإعلان الإيراني بشأن جدل المسيّرات إلى تحسين صورة طهران لدى نادي الـ5+1، وهي التي تستفيق هذه الأيام على إعادة طَرقِ أبواب فيينا لإنعاش الاتفاق حول برنامج إيران النووي. ويسعى إلى إعلان براءة من مخالفة القرار 2231 الصادر في العام 2015 (بعد اتفاق فيينا) والمُتعلّق بحظر استيراد أو تصدير الأسلحة من إيران وإليها.

والحَدَثُ يُعطي إشارة عاجلة لإعادة تصويب موقف إيران من الحرب في أوكرانيا، بحيث تُخرِجُ نفسها من اللائحة المحدودة للدول المنحازة إلى روسيا، وتعود لضبط اصطفافها داخل معسكر شبيه بحياد الصين التي تحرص على مواصلة التواصل مع كييف وعلى الجهر بتفهّم دوافع روسيا.

والحدث يُعطي إشارةً مهمة، خصوصًا أنه يأتي مُتأخّرًا، مفادها أن إيران التي عوّلت في انحيازها على انتصارٍ روسي حتمي، باتت واثقة من استحالة ذلك حتى لو ذهبت موسكو إلى خيارات عسكرية ذات دمار شامل توحي بها مناوراتها في خيرسون.

تضطر طهران لأن تعترفَ بأنها كذبت طويلًا، وأن حكومة كييف كانت على حق في اتهاماتها. تخرج منابر من داخل السلطة في إيران تأخذ على الحكومة ذلك التورط في حرب أوكرانيا، وتُطالبها بموقف يُخبِرُ روسيا بأنها الطرف المُعتدي في هذه الحرب. في الأمر مؤشر لافت إلى تحوّلات لا يُمكنُ إلّا أن تأخذ بالاعتبار الضغوط الداخلية التي باتت مُقلقة منذ اندلاع الحراك الشعبي إثر مقتل الشابة مهسا أميني في 16 أيلول (سبتمبر).

الحدث يعكس استنتاجًا في رأس السلطة بضرورة الاتّساق مع تسويات دولية كانت طهران في قلبها. لم يكن اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بعيدًا منها، ولم يكن تشكيل حكومة عراقية برئاسة مرشح الإطار التنسيقي القريب من إيران محمد شياع السوداني إلّا واجهة لها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى