إِيفا غونذاليس ومَرارَةُ الغيابِ الباكر

إيفا غوذاليس في صورة فوتوغرافية نادرة (نحو 1870)

هنري زغيب*

عن المؤَرخة التشكيلية غريزيلدا بولوك (م. 1947) في كتابها “رسامات انطباعيات” (2007) أَن “المرأَة الرسامة في القرن التاسع عشر بقيَت على هامش الحياة الثقافية ولو برزت فيها بأَعمالها”. ولعلّ هذا التعبير يصحّ، أَكثر ما يصحّ، على الرسامة الفرنسية إِيفا غونذاليس (1849-1883) التي عاشت في الظل، ورسمَت في الظل، وتوفيَت في القهر عن 34 سنة من قدَرها القاسي.

في هذا المقال أُضيْءُ عليها لقرَّاء “أَسواق العرب” رسامةً انطباعيةً لا تقلُّ قيمةً فنيةً عن أَيٍّ من معاصريها بين “الذُكُور”.

ناجحات بين ناجحين

بالرغم من نشأَتها في أُسرة احتضنَتْها وأَتاحت لها أَن تُنَمِّي موهبتها الفنية، بقيَت إِيفا مغمورة وسط مجتمع لم يكن فيه مكان إِلَّا للشُهرة الذكورية سطع فيها، انطباعيًّا لامعون مثل إِدوار مانيه (1832-1883)، كلود مونيه (1840-1926)، كميل بيسارو (1830-1903) وسواهم. وظلَّت الرسامات الانطباعيات سجيناتِ الظلال الكثيفة، إِلَّا قلَّة منهن خَرَقْن “الحُجُب” مثل ماري كاسَّات (1844-1926) وبِرت موريزو (1841-1895). وما إِلَّا بعد غيابهنَّ حتى تنبَّه الوسط التشكيلي إِلى قيمتهِنّ، كما حال إِيفا غونذاليس.

إِيفا بريشة أُستاذها مانيه (1870)

هي

ولدَت في باريس من أَبٍ روائي ووالدة عازفة موسيقى، أَنشآها على حب الفن منذ طفولتها. هكذا درسَت قواعد الرسم في يفاعتها بين 1866 و1868 على الرسام شارل شابلان (1825-1891) وكان أَنشأَ محترَفًا خاصًّا لتدريب الرسامات، وأَكملت سنة 1869 في محترف إِدوار مانيه الذي اتَّخذها أَولًا موديلًا له ثم تتلْمَذَت عليه.

في الحقبة الأَخيرة من القرن التاسع عشر لمع نجم عدد من الرسامات – الانطباعيات بشكل خاص – لكنَّ صورتهنَّ النمطية كـ”سيِّدات منزل” ظلَّت طاغيةً عليهنّ فسطع نجم الرسامين. وتميزَت إِيفا فترتئذ بأَن أُسرتها المتقدِّمة اجتماعيًّا أَتاحت لها في مطلع صباها فُرَصًا لم تكُن متاحةً لبنات جيلها. ومع استحالة أَن تتلقى دراسة أَكاديمية ليست مسموحة إِلَّا للشبان، تمكنت، بفضل وضْع أُسرتها الاجتماعي، من أَن تحقِّق غايتها في التعمُّق بالرسم.

“ساعة الشاي بعد الظهر” (1874)

الملامح الشخصية الأُولى

هكذا نجحَت في تشكيل أُسلوب خاص بها، زيتًا ورُسُومًا، واستطاعت أَن تَبرز في حلقات باريس الانطباعية. صحيح أَنها في مطالعها تأَثَّرَت كثيرًا بمرحلة مانيه الإِسبانية: أَلوان غامقة، وتضادّ واضح بين النور والظل، وكشفَت عن ذلك لوحة مانيه ذاته عن صبية ترسم أَمام مَلْوَنها.

لوحات إِيفا في مطالعها – على غرار أَعمال معاصرَتَيْها ماري كاسَّات وبِرت موريزو – حفلَت بلوحات الوجوه ودراسات لرسوم النساء والأَطفال. لكنها نَحَت لاحقًا إِلى أُسلوب خاص بها. ومنذ مطالعها تميزَت عن أُستاذها مانيه في الإِيحاء بالبُعد الثالث، حتى أَنها عرضَت لوحةً في صالون باريس 1870 وكانت لا تزال في ربيعها الحادي والعشرين. مع ذلك لم يقدِّرها النقَّاد عامئذٍ كما تستحقّ.

“صبحيَّة زهريَّة” (1874)

الغياب المأْساوي الباكر

لم تسْعَ إِيفا إِلى عرض لوحاتها في معارض الانطباعيين، بل ركَّزَت على “معرض باريس” السنوي الشهير، ساعدها على ذلك أُستاذُها مانيه وعلَّق لوحاتها إِلى جانب لوحاته، وكان ذلك، في رأْي بعض النقاد، من غير صالحها لأَنها بقيَت في ظل مانيه ولم تستقلّ بنقد منفصل كما نال سواها من العارضين والعارضات، كما نالت شقيقتُها الصغرى جانّْ غونذاليس من التقدير على لوحاتها ورسومها. وكانت جانّْ كانت موديل لدى إِيفا وتعلَّمَت عليها ثم أصبحَت الزوجة الثانية لزوجها بعد وفاتها الباكرة المفاجئة. فهي توفيَت سنة 1883 فور ولدَت طفلها الوحيد من زوجها الرسام والحفار هنري غيرار، تاركة 124 عملًا بين لوحات زيتية ورسوم هي اليوم موزعة بين متاحف عدة في العالم، ما يدل على تمايُزها عن معاصريها وخصوصًا عن معاصراتها اللواتي استطعن اختراق حجُب الذكورية في تلك الحقبة وكيف كان النقد يرى إِليهنّ.

كان موتها (6 أَيار/مايو) بعد خمسة أَيام (أَول أَيار/مايو) من موت أُستاذها مانيه.

شُرُوقُها بعد الغروب

بعد وفاتها شهدت أَعمالها انتشارًا لدى معارض “الحياة المعاصرة” (1885) ومعرض الخريف (1907) وعدد من صالات العرض في باريس. وبين أَبرز الصالات التي عرضَت لها: متحف الفنون الجميلة الوطني في مونتي كارلو.

هكذا انتقمَ لها قدرُها من مجتمع تركَها في الغموض والنسيان، لتنتشرَ لوحاتُها في الزمن التالي غيابَهَا فيُبقي غيابَها أَقوى من ذاك الحضور المرير على حياتها الوميضة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى