إِخراج قيْد لبناني بالخط الهيروغْليفي

هنري زغيب*

للتقدُّم إِلى طلب حصولي على تأْشيرة سفَر، كان لا بُدَّ من الحصول على إِخراج قيْد عائلي “مُدجَّجٍ” بصورتي الشمسية تُثْبتُ أَنني لستُ مُنتَحلًا صفةً ولا هُوية. لذا “شدَدْتُ الرِحال” هذا الأُسبوع، وتوجَّهتُ إِلى مختار المختاتير (غير الرحباني طبعًا) عارضًا له طلبي، فإِذا بوجهه يمتَقِع، وبهيكله يَسْبَطِرّ، وبنَظَره يَـحْلَنْشِش (كلمة من اختراعي لا معنى لها)، وبصوته الأَجشّ يَرفُسُني بعبارة: “صعبة يا أُستاذ”.

وإِذ تجرَّأْتُ وسأَلْتُه عن الصعوبة في طلب مواطنٍ عاديٍّ يقصِده لأَمرٍ عاديٍّ بمعاملةٍ عاديةٍ رأْسُ صعوبتها إِجراءٌ روتينيٌّ عاديّ، عاد إِلى الاسبطْرار مجدَّدًا، وقذَفَني بعبارة شَوساء صدرَتْ عنه من شَفةٍ واحدة في وجْه أَجْهَم: “ما فيه وَرَق إِخراجات قيْد بالدولة يا أُستاذ”.

هنا جاء دوري في الاسبطْرار: كنتُ سمعتُ بأَنَّ دولتنا العَوراء تعاني من انقطاع جوازات السفر، وأَوراق الطوابع، والورق الصحي في حمامات الدوائر الرسمية، لكنني لم أَسمع أَن اعْوِرار دولتنا المهترئة بلغَ حدَّ نفادِ أَوراقِ إِخراجات القيد.

ولما كنت أَدرى قليلًا بالعلاج في هذه الحالات المستعصية، نقَدْتُه كمشة أَوراق خُضر ولكنْ – وأَنا أَدُسُّها في كف يده الأُوتوسترادية – استدركْتُ أَنَّ هذه ليست له (فهو شَهْم ونبيل “إِذا صَدَقَت الوالدة”) وإِنما هي للموظف الذي، عند رؤْيتها، قد تهبِط عليه ورقةُ إِخراج قيد من مجاهل الأَبدية. وغادرتُ المختار صَبَاحَــئِــذٍ لأُفاجَأَ به يُهاتفني قُبَيل الظهر بأَنَّ إِخراج القيْد صار في مكتبه/ فَاهْلَمَمْتُ إِليه شاعرًا بــ”عبقرية” كمشة الأَوراق الخُضر. وما إِن دخلْتُ باب مكتبه حتى نَهَرَني بثقَة فولكلورية: “رتَّبناها يا أُستاذ”. ومدَّ لي يدَه باعتزاز “أَبو مِلْحِمِيّ” وناولَني ورقة إِخراج القيد لأَقع أَمامها في ذهول: رحتُ أَتأَمَّل طويلًا هذه الورقة في يدي فلم أَفهمْ منها إِلَّا صُورتي في أَعلاها. أَما الكتابة فلا عربية ولا أَجنبية بل في منطقة وسطى بين السَنْسْكريتية والهيروغْليفية. تجرَّأْتُ ثانيةً وسأَلتُ المختار عن ذلك، فاستراح إِلى ضحكة ثَعْلَبية وبادرَني بلامبالاة مجانية: “هذا خطُّ الموظَّف يا أُستاذ. كلَّ مرة يُفَاجَأُ المواطنون مثلَك بخطِّه الأَعْوَج”. عدْتُ مُجَدَّدًا إِلى الورقة في يدي، أُقلِّبها اعوجاجًا وارتجاجًا واحتجاجًا لعلِّي أَستطيعُ فَكَّ أَلْغازها الـمُرَمَّزة فلم أُفْلح… “هذا خط الموظَّف يا أستاذ”… كرَّرَها لي المختار وأَنا أُغادر مكتبَه كما خارجًا من كهْفِ الإِنسان الأَول في أُنطلياس.

في عودتي إِلى البيت – على ذكْر الموظَّف في دائرة رسمية – تذكَّرتُ كيف كنتُ يومًا في إِحدى الدوائر العقارية لإِنجاز معاملة عائلية. أَعطَيتُ الوثائق من يدي إِلى موظَّفة شَمطاء زميلةِ أَرتَحشَشْتا سنًّا وهيئةً، فإِذا بها تَسحَب من تحت الطاولة دفترًا هولاكيًّا بحجم رغيف مرقوق كبير على صاج ضخم، وأَخذَتْ تَفتَحه بأَصابعها وكفِّ يدها معًا كي تُسجِّل رقم معاملتي على إِحدى الصفحات المهترئة المتَجَعلكة من كثرة فتْحِه بالكَفّ والأَصابع، فَرُحتُ أَرى هنا بقعةَ قهوة اندَلَقَت من الفنجان على الدفتر، وهنا بقايا زعتر من منقوشةٍ بَطَشَ بها موظَّف فوق صفحةٍ من  الدفتر. وامتشقت الـمَدام قلمَها الأَشْوَس لتدوين معاملتي فسجَّلَتْه بخطٍ أَين منهُ هيروغليفيَّةُ إِخراج القيد.

أَقول هذا لا لأَتَّهم موظَّفي الدولة عمومًا، بل لأُؤكِّدَ على ضرورة أَن يَخضع موظفو الدولة لامتحانات دُخُول جِدّية وصارمة وغير صُوَريَّة، تُعفي دولتَنا من أُمِّيَّة موظَّفين جاؤُوا إِلى الوظيفة ببطاقةِ توصيةٍ لا بشهادةِ استحقاق.

ومن اليوم حتى تَتَمَكْنَنَ كلُّ الدولة إِلكْترونيًا، وتُصبحَ جميعُ المعاملات على الشاشة – لا على الورق بخطوط موظَّفين أُمّيين – سنبقى مُصابين بِـمَن يكتبون المعاملات بخطٍّ هيروغْليفيّ على صفحات تَضيع فيها الكلمات والأَسماء والأَرقام بين بقايا قهوة الموظَّف وبقايا رماد سيجارته، وبقايا بُقَع الزَيت اليابس من منقوشة الزعتر.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى