أوكرانيا: مَخاطِرُ التصعيد بانتظارِ التَسوِية

الدكتور ناصيف حتّي*

قرارُ روسيا الاتحادية ضمّ أربع مناطق من أوكرانيا إليها، وهي لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوريجيا، في استفتاءٍ تمَّ في خضمِّ الحربِ القائمة وباعتبار أنَّ لهذه المناطق علاقات تاريخية خاصة مع روسيا، شَكّلَ خطوةً تصعيدية كبيرة في الحرب الدائرة. حصل ذلك بعد أن شعرت موسكو آنها تغرق تدريجًا في الرمال المتحرّكة الأوكرانية وفي حربِ استنزافٍ يقودها حلف شمال الأطلسي (الناتو) ضدها بواسطة كييف ومن خلال توفير كافة أنواع الدعم العسكري الكمّي والنوعي لأوكرانيا. ردّت كييف بطلب تسريع الانضمام الى “الناتو”. وكان الحلف رحّبَ بانضمام أوكرانيا خلال مؤتمره في جورجيا في العام ٢٠٠٨. ولكن بين التهديد بقبول أوكرانيا في الحلف الاطلسي وتنفيذ ذلك القرار على الصعيد الفعلي مسافة شاسعة. ويرى الكثيرون في الغرب إنه من غير الممكن قطعها، إذ أنَّ حصولها يُدخِلُ الحلف الغربي في صراعٍ مفتوح مع موسكو لا تُعرَف أدواته وأبعاده ونتائجه. ولا يُمكن أن تقبل روسيا بنشر صواريخ حاملة لرؤوس نووية على حدودها الطويلة مع اوكرانيا، الأمر الذي يُشكّلُ تهديدًا خطيرًا وكبيرًا للأمن القومي الروسي. وردَّ الرئيس فلاديمير بوتين في كلمة/ رسالة إلى الغرب ألقاها في الكرملين جاء فيها إن بلاده تعمل لإقامةِ نظامٍ مُتَعدّد الأقطاب على حسابِ نظامِ الأحادية الغربية التي تقوده واشنطن. وللتذكير فإن الدولَ التي كانت جُزءًا من الاتحاد السوفياتي أو من حلف “وارسو” وانضمّت الى الحلف الأطلسي بعد نهاية الحرب الباردة قامت بذلك في “لحظة الأحادية الأميركية” التي طبعت النظام الدولي غداة نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي. لحظةٌ انتهت مع عودة روسيا الاتحادية للعب دور القطب الدولي أيًّا كانت طبيعة التوازنات التي تحكم علاقاتها مع الولايات المتحدة إلى جانب بالطبع القطب الدولي الآخر، الصين الشعبية .

مُجمل الدول الصديقة لموسكو التي عبّرت عن موقفها القريب منها أو المُحايد من الأزمة الأوكرانية لم تؤيّد عملية الضمّ، رُغم تفهّمها لمخاوف روسيا من السياسة الأوكرانية الحالية ومن الاستراتيجية الغربية التي تحتضنها. وقد دعت إلى حلٍّ سياسي للأزمة وفي طليعة هذه الدول  الصين الشعبية .

فالحلول يجب أن تبقى في إطارِ الحفاظ على الوحدة الترابية للدول القائمة وليس عبر التقسيم أو عبر اقتطاع جُزءٍ من دولةٍ مُعَيَّنة، وهي إحدى القواعد المعمول بها دوليًّا، والخوف من  تكريس أو تعزيز سياسة التقسيم أو الضمّ أيًّا كانت التبريرات التي تحملها. فالنظام الدولي بأطرافه المختلفة لا يذهب في هذا الاتجاه، سواء تعلّقَ الأمرُ بالتقسيم أو بالضمّ إذ أنَّ حصولَ ذلك يؤدّي إلى فوضى عالمية ذات تداعيات مُختلفة وخطيرة على الجميع. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نُشيرُ إلى جمهورية شمال قبرص التركية التي وُلِدَت رسميًّا في العام ١٩٨٣، وكذلك جمهورية أوسيتيا الجنوبية وإقليم أبخازيا (المنفصلان عن جورجيا)، التي لم تحظَ جميعها بالاعتراف الدولي.

إنَّ “لعبة” التصعيد المُتبادَل في أيِّ صراع لا يعني البتّة عدم التراجع عن موقفٍ مُعَيَّن والذهاب في طريق اللاعودة، بل قد يكون هذا الموقف في حالاتٍ كثيرة بمثابة ممارسة ضغط على الطرف الآخر، أو ما يُعرَف ب”عضّ الأصابع” لرفع السعر المطلوب من الخصم عبر التفاوض على الأرض قبل التفاوض حول طاولة المفاوضات.

قد تستمر الحرب لفترة طويلة ويتكرّس الوضع القائم، وتصبح حربًا ممتدة فيها تصعيدٌ وتخفيضٌ للأعمال العسكرية في لعبة الصراع في أوكرانيا وحول أوكرانيا. وتحمل تداعيات مكلفة ومختلفة على جميع اللاعبين المشاركين بشكل مباشر أو غير مباشر إلى أن يأتي يوم التسوية التي لن تكون بالضرورة في القريب العاجل، مما يزيد من تعقيداتها وكلفتها. تسويةٌ يجري الحديث عن  بعض عناصرها ومرتكزاتها  .

تسويةٌ تقوم على الحفاظ على الوحدة الترابية لأوكرانيا من خلال التراجع عن ضم المناطق الأربع مُقابل منح هذه المناطق وضعية خاصة (علاقات خاصة مع موسكو)، وضمانات بعدم انضمام أوكرانيا إلى منظمة حلف شمال الاطلسي وإقامة نوعٍ من الحياد السياسي، كما كانت فنلندا خلال الحرب الباردة. حيادٌ ينعكس في  علاقاتٍ متوازنة مع روسيا الاتحادية واحتمال انضمام أوكرانيا الى الاتحاد الاوروبي عندما تستوفي الشروط المطلوبة أوروبيًّا لهذا الانضمام .

وإلى أن يحينَ موعدُ التسوية تجد أوروبا نفسها أمام جدار برلين جديد وتعود لتكون في قلب لعبة صدام استراتيجيات الكبار في العالم .

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى