روسيا والغرب… خِطابُ القَطيعة

محمّد قوّاص*

لا شَيءَ يُوحي أن الغرب كان بصددِ تنفيذِ خِططٍ “لهدم الثقافة والحضارة الروسيتين”. لا وقائع تَرفُدُ حجج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإطلاق التعبئة الجُزئية في بلاده وإقناع شعبه بوجاهتها. ولا شَيءَ يدلُّ على تدبير الغرب مؤامرة لتفكيك روسيا حسبما يُكرّرُ الكرملين وإعلام موسكو.

وحتى خطاب الزعيم الروسي في الأيام الأخيرة الذي لا يجد له سوقًا مُقنِعةً لدى الرأي العام الغربي وعواصم القرار في الغرب، سيصعب تسويقه لدى الرأي العام الروسي أيضًا الذي أظهر تبرّمًا من قرار إقحامه في الحرب.

لا معطيات واقعية حول تعرّض الأراضي الروسية لأخطارٍ وجودية، حسب الرواية الرسمية، ناهيك من أن المدن والقرى في روسيا لم تشعر بوقع الحرب التي يُفترَض أن تتناسل منطقيًّا من “العملية العسكرية” التي أعلنها بوتين ضد أوكرانيا منذ شباط (فبراير) الماضي. حتى أن حرص واشنطن وحلفائها، حتى الآن، على عدم تزويد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى يهدف إلى منع نقل الحرب إلى قلب روسيا نفسها.

في ألف باء الحدث أن روسيا هي التي أنذرت وحشدت ودفعت قواتها داخل الأراضي الأوكرانية. وفي بديهياته أن روسيا لم تتعرّض لأيِّ اعتداءٍ ولا لأيِّ تهديدٍ يمسُّ أمنها قبل ذلك. وفي خلفياته أن روسيا هي التي هاجمت جورجيا في العام 2008 واحتلّت وما زالت تحتل أراضٍ هناك، وهي التي هاجمت أوكرانيا في العام 2014 وضمّت أراضٍ أوكرانية (شبه جزيرة القرم) بالقوّة إلى روسيا.

غير أن التاريخ ليس عِلمًا حسابيًّا ولا يخضع للبديهيات والوقائع والأدلّة. ثم أن الحقّ هو وجهة نظّر ترجّح القوة وحدها كفّته لصالح المتصارعين.

وإذا ما ازدرى بوتين أوكرانيا وسخر من استقلالها وأنكر عليها الوجود مُعتبرًا أنه خطيئة لينين وستالين، فإن أوكرانيا تُكافِحُ بالدم والبشر والحجر دفاعًا عن هذه الكينونة وهذا الاستقلال. وما كان الغرب ليدفع بالدعم والسلاح النوعي الفتاك لو لم يجد لدى الأوكرانيين العزيمة والإرادة لتثبيت وقائع وبديهيات وأدلة من شأنها ترجيح هوائية الحقّ ومسلماته. هل يجب التذكير أن الأوكرانيين ردوا الهجوم الروسي على كييف وأجبروا الروس في آذار (مارس) على تغيير خططهم. كان ذلك قبل أن تتلقّى أوكرانيا السلاح الغربي النوعي الفتّاك.

لم تكن حسابات بوتين خاطئة حين قرر (وحده ودوائر القوميين الروس حوله) إطلاق “العملية” في أوكرانيا. اعتمد في منهجه على ثوابت وسوابق روسية وغربية على السواء.

في السوابق ما أنجزته القوات الروسية في أبخازيا في جورجيا والقرم في أوكرانيا وما انجزته سابقا في الشيشان وداغستان ولاحقًا في سوريا.

وفي الثوابت أن الموقف الغربي من كل هذه الحروب كان مُتعايشًا مُتفهّمًا مُتخاذِلًا وردات فعله أقرب إلى النأي بالنفس والتواطؤ.

لم يتغيّر بوتين. هو منسجم مع نفسه ومعتقداته التي لطالما عبّرت عنها أدبيات القوميين (ألكسندر دوغين أشهرهم) وكشَفَها توقه إلى استعادة رفاة إيفان إيلين منظّر الفاشيين الروس من سويسرا وإعادة دفنه في موسكو. لم يخفِ الرجل حنينه إلى الإمبراطورية في شقيّها القيصري والسوفياتي واستعادة طموحات أوراسية حالمة والتبشير بها.

بالمُقابل تغيّرَ هذا الغرب.

بعد أن استهجن الغرب ما ارتكبه بوتين في القرم في العام 2014، فرض على روسيا عقوبات غير رادعة. لاحقًا فتحت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل للرئيس الروسي أبواب برلين في العام 2016، واستضافه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر فرساي في العام 2017، واندفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب للالتقاء به في هلسنكي في العام 2018 ثم التقاه خلفه جو بايدن في جنيف في العام 2021، فأين خطط هدم روسيا وتفكيكها والتآمر على حاكمها؟

لا شيءَ في كلِّ هذه الأعراض أوحى للزعيم الروسي بأن للغرب مخالب سيُخرجها بوجهه يومًا للردّ على “عملية عسكرية” بسيطة في أوكرانيا كتلك التي سبق أن قام بها في القرم في أوكرانيا أيضا قبل 8 سنوات.

يُمكن الاستنتاج أن الرئيس الروسي نجح ببراعة وحرفية في إقناع الغرب على نحو شبه تام بالقطيعة الكاملة مع روسيا التي يحكمها. حتى دول الحياد أيام الاتحاد السوفياتي، فنلندا والسويد، اندفعت نحو الحلف الأطلسي بدون تردد أو ندم. بات الغرب يعتبر روسيا خطرًا استراتيجيًا داهمًا (وليس الصين) يستدعي دعم أوكرانيا إلى أقصى الحدود. استمع بوتين جيدًا إلى “ليز تراس”، رئيسة وزراء بريطانيا، وهي تُعلن من على منبر الأمم المتحدة أن الأوكرانيين لا يدافعون فقط عن أنفسهم بل “يدافعون عن أمن العالم برمّته”. قبلها تحدث بايدن فكان أكثر حزمًا وحسمًا وعزمًا لوقف حرب روسيا وإفشال خطط زعيمها.

يتوجّه بوتين إلى الروس فقط في خطبه وقراراته الأخيرة. لا تُغيِّرُ تصريحاته من موقف الغرب الرافض للغزو في أوكرانيا، ولا يحُدث أي تطور لصالحه في موقف “أصدقاء”، مثل الصين والهند، لم يدعموا الحرب ولا يجدون توقيتها مناسبًا (وفق رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي).

ستدخل الحرب أكثر فأكثر إلى بيوت 300 ألف جندي روسي جديد سينضمون إلى المعركة بعد التعبئة التي أعلنها رئيس البلاد. أعلن بوتين أن حربه ضد أوكرانيا هي للدفاع عن الشعب الروسي وبات اليوم يريد، من خلال التعبئة، أن يدافع الشعب عن حربه.

وفيما يُلوِّحُ بوتين بالسلاح النووي مُجَدَّدًا بعد أن لوّحَ به قبل ذلك، للمفارقة، في اليوم الرابع للغزو، فإن تلك الفرضية الكارثية العدمية ستُعجّل في طرح أسئلة في موسكو، قبل واشنطن وبكين وباريس ولندن، حول وجودية ساكن الكرملين ومدى اتساق ذلك مع مصالح روسيا بالذات قبل الإنسانية جمعاء.

سيُراكم الرئيس الروسي أدواته وعدّته وهو يتطلع إلى الموعد في بالي في إندونيسا. هناك سيلتقي مع زعماء العالم الكبار في قمة العشرين في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. هناك حيث التسويات المحتملة تحتاج الآن إلى أقصى وسائل التصعيد والتهويل والوعد بالعدم وشيء من الجنون.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى