على اقتصادات الخليج استخدام الحَيِّز المالي المُتاح لضَمانِ هبوطٍ سَلِس

تتمثل إحدى الميزات الرئيسة التي تتمتع بها اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي في حيّز السياسة المالية المُتاح الناتج عن مُدّخراتها المتراكمة في صناديق الثروة السيادية.

جهاز أبو ظبي للإستثمار: أكبر الصناديق السيادة الخليجية ملاءةً

محمد بشري*

بعد تحقيقِ نموٍّ اقتصادي جيد في العام 2021 رُغمَ التداعيات المستمرة للوباء، تواجه دول مجلس التعاون الخليجي الآن خطر التضييق النقدي (الزائد). ويرجع ذلك إلى الحاجة إلى اللحاق والتقيّد بتعديلات أسعار الفائدة التي يجريها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي للحفاظ على ترتيبات الربط بين عملات دول مجلس التعاون الخليجي والدولار الأميركي. والفشل في القيام بذلك من المرجح أن يؤدي إلى تدفقات كبيرة لرؤوس الأموال خارج المنطقة بحثًا عن معدلات أعلى للعائد على الاستثمار، مع تأثيرات مُزعزعة لاستقرار النظام المالي الخليجي.

ومع ذلك، لا يوجد ما يُبرّرُ الزيادة المتوقعة في أسعار الفائدة، حيث تواجه اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي حاليًا معدلات تضخّم مُعتَدلة نسبيًا. بدلاً من ذلك، ينبغي عليها استخدام الحَيِّز المالي المُتاح للتخفيف من التداعيات السلبية للتضييق النقدي (وصدمات العرض السلبية الأخرى) والاستفادة بشكل أكبر من الشراكات بين القطاعَين العام والخاص لتطوير البنية التحتية في المستقبل.

النظرة الاقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي

لا يزال النمو الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي قويًّا، حيث ارتفع في المتوسط من 2.08٪ في العام 2021 إلى 5.22٪ في العام 2022. ويُعزى هذا التحسن إلى حدٍّ كبير إلى ثلاثة عوامل رئيسة:

  1. سيولة كافية في النظام المالي في مواجهة الطلب الضعيف على الائتمان؛
  2. التحفيز المالي الذي يتم ضخّه في الاقتصاد (وإن كان أقل مما هو مُبرَّر) ؛ و
  3. إرتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي الذي يسمح باستمرار الإنفاق الحكومي.

وفي الوقت نفسه، ظل التضخم مُعتدلًا، حيث بلغ متوسطه 3.6٪ في العام 2022 مُقارنةً بـ9.1٪ في الولايات المتحدة. ويرجع ذلك إلى تدنّي الزيادة في تكلفة الإسكان والخدمات الأخرى (ما يسمى بالسلع والخدمات غير القابلة للتداول، والتي تعتمد أسعارها على العرض والطلب المحلّييَن)، بينما من المتوقع أن ترتفع أسعار السلع والخدمات القابلة للتداول حسب معدل التضخم العالمي زائد أو ناقص الارتفاع أو الانخفاض المتوقّعَين في قيمة الدولار الأميركي.

يشير التناقض بين التوقعات الاقتصادية في دول مجلس التعاون الخليجي والاقتصاد الأساس (الولايات المتحدة) إلى عدم تطابق في دورة الأعمال: يبدو أن الإقتصادات الخليجية آخذة في التوسّع، في حين أن الاقتصاد الأميركي ينكمش. لذلك، فإن السبب الوحيد الذي يجعل أسعار الفائدة في دول مجلس التعاون الخليجي تتماشى مع أسعار الفائدة الفيدرالية الأميركية هو الحاجة إلى الاتساق نظرًا إلى ترتيب ربط عملاتها بالدولار الأميركي.

على الرغم من التشديد النقدي الأخير في دول مجلس التعاون الخليجي بالتوازي مع تحركات مجلس الاحتياطي الفيدرالي، ظلت السيولة في المنطقة كافية. ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي منذ بداية الحرب في أوكرانيا، ما أدّى إلى زيادة كبيرة في السيولة. إن قاعدة الودائع المصرفية القوية على وجه الخصوص، والزيادة على أساس سنوي حتى أيار (مايو) 2022 بنسبة 10.0٪ في المملكة العربية السعودية، و 7.5٪ في الكويت، و 23.3٪ في سلطنة عُمان، سمحتا للبنوك بتخفيف معايير الإقراض وزيادة الائتمان، الذي ارتفع بدوره على أساس سنوي بنسبة 8.7٪ في الكويت، و14.1٪ في المملكة العربية السعودية، و 24.7٪ في عُمان.

لذلك، يمكن الافتراض بشكل واثق أن السلطات النقدية في دول مجلس التعاون الخليجي، إلى حد كبير، فعلت ما في وسعها لمواجهة صدمات العرض والإمداد الناجمة عن الوباء والحرب في أوكرانيا، حيث وفّرَت للاقتصاد التمويل اللازم. ومع ذلك، يمكن عمل المزيد على الجبهة المالية، والاستفادة من الحيّز المالي المُتاح.

إستخدام الحيِّز المالي المُتاح لتعزيز النمو

تتمثل إحدى الميزات الرئيسة التي تتمتع بها اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي في حيّز السياسة المالية المُتاح الناتج عن مدّخراتها المتراكمة في صناديق الثروة السيادية. تشير التقديرات الأخيرة إلى أن إجمالي أصول صناديق الثروة السيادية لهذه البلدان يبلغ 3 تريليونات دولار، منها 1.19 تريليون دولار للإمارات وحدها.

تم تحويل جزء من هذه المدخرات إلى الموازنة الحكومية، وساعد ارتفاع عائدات الصادرات الهيدروكربونية الدولية على الحفاظ على فائضٍ مالي في دول مجلس التعاون الخليجي. وتفيد التوقعات أن ينتج عن ذلك بلوغ الناتج المحلي 6.6% في الكويت، 5.6% في عُمان، 8.5% في قطر، 5.5٪ وفي السعودية، و8.1٪ في الإمارات في العام 2022؛ البحرين هي الاستثناء ويتوقع أن تعاني من عجز قدره 3.3٪ في الناتج المحلي الإجمالي.

 تقوية الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتخفيف العبء المالي الحكومي

من المتوقع أن تصل القيمة الإجمالية للمشاريع المخطط لها وغير المدعومة في دول مجلس التعاون الخليجي إلى ما يقرب من 2 تريليوني دولار، فمن الواضح أن الشراكات بين القطاعين العام والخاص –الشراكات بين الشركات الخاصة والهيئات العامة التي تسمح بالتمويل المشترك وتشغيل المشاريع– ضرورية للتنمية المستدامة. يشير تقرير مؤسسة “برايس ووترهاوس كوبرز” عن الشراكات بين القطاعين العام والخاص في الخليج إلى عدم اليقين المحيط بالإطار القانوني الداعم باعتباره العقبة الرئيسة أمام استخدامها في دول مجلس التعاون الخليجي –خارج قطاعي الطاقة والمرافق– ويوصي بإجراء تحسينات مختلفة، بما في ذلك:

  • زيادة الوضوح بشأن معايير الاختيار وإجراءاته والنظر في المقترحات غير المطلوبة (حيث قد تكون الشركات المتخصصة في وضع أفضل لتحديد المشاريع المناسبة للشراكات بين القطاعين العام والخاص)؛
  • وضع أطر تشريعية ومؤسّسية تسمح بمشاركة القطاع الخاص بنسبة 100%؛
  • وضع آليات مناسبة لتسوية المنازعات، بما في ذلك خيار الاختصاص القضائي المحايد لتعزيز ثقة المستثمرين؛ و
  • تقديم الدعم الحكومي للاستثمار الخاص على أساس كل حالة على حدة (مثل ضمانات المشروع والقروض العامة، والإعانات، والحوافز الجمركية).

وضع القطع معًا

نظرًا إلى أن الاقتصادات العالمية عرضة لصدمات العرض والإمداد غير المتوقعة، فمن المهم إعادة التفكير في مجموعة أدوات السياسة الاقتصادية. مع الاستعانة بمصادر خارجية لسياسة الصرف وأسعار الفائدة من الاحتياطي الفيدرالي، من الأفضل لدول مجلس التعاون الخليجي الاستفادة بشكل أكبر من الحيّز المالي المُتاح حتى تتمكن من متابعة المزيد من الحوافز المالية الموسعة، بدعم من الشراكات بين القطاعين العام والخاص الأكثر نشاطًا لتطوير البنية التحتية، للتخفيف من التشديد النقدي الجاري. للمضي قدمًا، سيتطلب ذلك تحسين إطار المالية العامة متوسط الأجل، وعملية تنسيق رسمية بين المالية العامة والنقدية، والتدرّج في إعداد سياسة مالية لمواجهة التقلبات الدورية.

  • محمد بشري هو أستاذ سابق للاقتصاد في جامعة سوسة في تونس. شغل منصب كبير الاقتصاديين في البنك المركزي لدولة الإمارات العربية المتحدة من العام 2001 إلى العام 2022، وكان خبيرًا اقتصاديًا في إدارة أفريقيا في صندوق النقد الدولي في 1993-1995. الآراء الواردة في هذ ا المقال هي آراؤه الخاصة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى