ليلة ضهُور الشوَير

هنري زغيب*

حين جمعتُ أَوراقي ودسَسْتُها في جيوب حقيبتي مع رفيقي الدائم: جهاز الكومپيوتر المحمول، كان في نيَّتي أَن أُمضي يومَي نهاية الأُسبوع الماضي في ضهور الشوير، هرَبًا من أَتون جونيه في آب/أغسطس، وسعيًا إِلى ساعات لطيفة مثْمرة من الكتابة في غرفة هادئة من “أُوتيل نيو سنترال” الـمُعْنِق على قمة من “الضهور” تُطلُّ على مشهد دائري تتهامس فيه قُرًى وبلداتٌ من جبلنا اللبناني المبارك.

وهذا ما حصل فعلًا: بين رحابة الصالون، و”خيمة الأَصدقاء”، و”تيرَّاس النافورة”، وغرفة هادئة أَنجزْتُ فيها كتاباتٍ كانت تنتظر الولادة، وفي ذاكرتي أَنَّ ضهور الشوير، قبل 85 سنة، كانت كذلك واحةَ الهناءَة والهدوء لسعيد عقل فأَنجز فيها الكتابة الأُولى لـ”قدموس” (آب/أغسطس 1937) ثم أَعاد النظر فيها بعد سبع سنوات في زحلة (آذار/مارس 1944) وصدرَتْ طبعتُها الأُولى في أَيار/مايو فأَحدثَت عامئذٍ ما أَحدثَت من عاصفة أَدبية كبرى.

سوى أَنَّ ما أَنْجَزْتُهُ من كتاباتٍ ظلَّ عاديًّا حيال ما كان ينتظرني من مفاجأَة نادرة. ذلك أَن الأَميرة أَلِكْسَا وشقيقَها إِيلي قيامة (صاحبَي الفندق) كانا يحدثانني عفويًّا عن جمال منطقة قريبة تدعى “الـمْنَيْبيع”.

“الـمْنَيْبيع”؟؟؟ ولَمَعَت بي الكلمة تُذَكِّرني بما كان منصور الرحباني يحدِّثني عن طفولته فيها وصباه كلَّ صيف مع عاصي في “قهوة الـمْنَيْبيع” لوالدهما حنا عاصي الرحباني وفوقَها البيت الصيفي، ولهما في إِطارها وجوارها ما صدَرَ لاحقًا في شعرهما.

ما كدت أُترجم المفاجأَة برغبتي في زيارة المكان حتى كنَّا في السيارة إِليه.

ها نحن في الـمْنَيْبيع”: “القهوة” اندَثَرَت. البيت (غرفة واحدة بشبَّاكَين متطاولَين، وبَـهْوٌ تتصدَّرُه ثلاث قناطر) مهجورٌ متهالِكٌ يكاد يندثر صامتًا ينتظر الـمُنْقذ

هوذا جَــوُّ عاصي ومنصور في “الـمْنَيْبيع”.

ها هي قُدَّامه الجوزةُ العتيقة ناطورةُ الشمس إِذ تَحْمَرُّ عند الغروب… كَتَبَاها لاحقًا: “شوفوا الغيمِه احمرِّت خلف الجَوزِه” (“جميلة” في “جبال الصوَّان”).

وها هي قُدَّامه الحَورة العتيقة… كَتَبَاها لاحقًا: “بكتُب إِسمَك يا حبيبي ع الحَور العتيق”.

وها هي قُدَّامه السنديانة العتيقة… كَتَبَاها لاحقًا: “… وازرعيهُن بالوَعر أَرز وسنديان ملوَ الزمان” (صوت عاصي في “موسم العز”).

وها هي قُدَّامه الأَرزة المشْرفة على الوادي فالبحر… كَتَبَاها لاحقًا: “من تحت هالأَرزِه لآخر هالدني، نهر الرجال يسافر ويسقي الدني”.

وها هو صنين يلُوح من بعيدٍ هانئًا هادئًا على تلاله العالية… كَتَبَاهُ لاحقًا: “يا حجل صنين بالعلالي… يا حجل صنين بالجبل” (“ريما” في “بيَّاع الخواتم”).

تحت البيت لوحةٌ صخرية قديمة تآكلَت مع الزمن. بعد ثلاثٍ تَبلُغ المئة. أُحاول أَن أَقرأَ بقايا حروفها المتكَسِّرة: “تَمَّ حفْر مياه الينابيع على عهد البطريرك غريغوريوس حدَّاد ورئاسة الأَرشمندريت أَرسانيوس خوري”، وتحتها 4 أَبيات تأْريخية مُتَحَتِّتَة تصعُب قراءَتها إِنما تنتهي بتاريخ “سنة 1925”.

يقف حدِّي دليلُنا الأَرشمندريت أَنطونيوس، القَيِّمُ على إِنشاء دير “سيِّدة اليُنبُوع” في الحَرَم الذي يَضُمُّ الحورة والجوزة والسنديانة والأَرزة، وهو فلذةٌ من أَراضي “دير مار الياس شويَّا”. أَسأَل الأَبَ القيِّم عن سرّ الينابيع في هذه البقعة (دَرَجَت شعبيًّا “الـمْنَيْبيع”) فيقول إِن الأَرض في هذه البقعة حُبلى بالينابيع.

نمشي خطواتٍ صوبَ الدير الـمُزمَع إِنشاؤْه. تُطالعُني صخرةٌ كبرى ذاتُ فمٍ كبير يَلْفُظُ المياه في رضى. أَسأَل عنها الأَرشمندريت فيجيبُني: “هذا هنا الأَصل البكْر: نبع الينابيع”! تنشُب في سَمعي قصيدةُ عاصي ومنصور بصوت الخالدة أَبدًا فيروز: “ساعِدْني يا نبع الينابيع… يا سيِّد العطايا… ساعِدْني” (“غربِه” – “جبال الصوان”).

يلفُّنا الليل. نعود إِلى الفندق. أَدلُف إِلى غرفتي. تتلاوحُ أَمامي “قُرًى من زُمُرُّدٍ عالقاتٌ في جوار الغمام”. في بالي كشْفٌ جديدٌ من تراثنا اللبناني، وعلى هُدْب قلبي مقالٌ لــ”أَسواق العرب” عن ليلة ضهور الشوير.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى